دول اللامكان واللازمان
عبارةٌ "اللامكان واللازمان" بسيطةُ الشكل
معقدة المضمون؛ باحت بها فنانةٌ عراقيةٌ قبل أيامٍ على راديو البي بي سي عندما
سألتها المذيعة عن الرقابة في الدولة العراقية على الأعمال الفنية. لم أتابع موضوع الرقابة وبقيتُ في عبارة
اللامكان واللازمان؛ طوبى لكم أيها
الفنانون كيف تختصرون الواقع في كلمات. فهل ضمت اللغة العربية عبارةً أوضح من تلك
لتعبر عن حال العراق الآن؟
أهمية أخرى للعبارة أنها فتحت الآفاق للنظر لباقي دول
العالم العربي التي تأثرت بموجة الربيع العربي والتي يمكن أن توصف أيضاً بأنها
باللامكان واللازمان؛ فهل وضع ليبيا واليمن وسوريا أفضل من العراق؟ وهل وضع باقي
الدول الأخرى التي هزتها رياح الربيع بقوة ولم تسقط أنظمتها أفضل من حال العراق من
حيث اللامكانية واللازمانية! لا أعتقد. نظرة
بسيطة للتركيبة الاجتماعية والاقتصادية لهذه الدول تشير أنها في عين اللامكان
واللازمان ولا يظن أحدٌ أن دول الرأسمال العربي أيضاً بعيدة عن هذه الظاهرة وإن
ساعدتها ظروفها المالية للظهور بأنها ربما تكون أفضل حالاً، بل ربما كان وضعها
أسوأ من باقي الدول؛ فانتظار المصيبة قد يكون أقسى من المصيبة نفسها.
ربما ساعدت القوة العسكرية في بعض الدول والاستخبارية في
دول أخرى على التمهيد لظاهرة اللامكان واللازمان إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي
أتت على أسس هذه الدول وأفقدتها توازنها وخرَّ على بعضها السقف؛ أنظروا إليها وهي
تدّعي التماسك لتجد أن خلف هذا حالة من الرفض الاجتماعي لكيان الدولة ومن المؤسف
أن بعضهم يعتقد أنه بهذا الرفض يُمَكِّن للدولة ويقوي أركانها وهذا أبشع حالات التِيه
عند الشعوب إذا لا يدري إن كان يسير بالاتجاه الصحيح أم لا.
فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي وضح حجم الفوضى التي
تعاني منها البلدان. وقد لفَتَ نظري هذا البعد
الاجتماعي للربيع العربي ببداياته وكتبتُ عنه قبل سنوات؛ وتحدثت عن الثقة المفقودة
بيين الشعوب وكيان الدولة وإن تظاهروا بأن خلافهم مع الأشخاص لا الدولة نفسها،
والسبب طبعا أنه في الدول العربية هناك ظاهرة غريبة وهي اختطاف المسؤولين أو
الحكام للدولة، فلا تستطيعُ أن تنتقد أداء
الدولة دون أن تمر بانتقاد الحاكم وهذا يقلب عليك الموالين للنظام؛ وكذلك لا يمكن
أن يكون ولاؤك للحاكم كاملاً إلا إذا وقّعت على بياض لسياساته في إدارة الدولة
وهذا يثير عليك غضب الحراكيين والإصلاحيين؛ فظهرت هناك موجاتُ رفض كبيرة لكل من نادى
بتحكيم العقل والتنبه لهذا الانحدار المتسارع للدول واتهم أصحاب هذا التوجه بأنهم (بألطف
العبارات) موالون للنظام السابق أو الذي لم يسقط بعد، لكن المسميات أخذت أشكالاً
أكثر قسوة في بعض الأحيان؛ وظهر الأمر كذلك جلياً في رفض الموجات البشرية ولا أقول
الشعوب فالشعوب أتضح أنها عندما يَجِدُّ الجد هلامية تائهة لا هدف لها، وتسيح كقطرة
ماء فوق صفيح معدني في كل اتجاه؛ وشمل هذا أيضاً رفضهم الكبير لرجال الدين فمن
تحدث فيما يخالف هذه الموجة أو تلك قيل
عنه من علماء السلاطين أو من الخوارج وحل قتله.
وقد مهدت الحالة السابقة لخوف المسؤولين من موجات العنف
والانتقادات المتناقضة أحياناً على وسائل التواصل الاجتماعي وحدّ من جرأتهم على
اتخاذ القرارات الحاسمة سواء على مستوى الرئاسات أو الوزارات، فالكل يخاف من
التوقيع على القرار وهو يعلم أنه بتوقيعه لن يسلم، لهذا جاء الأداء الحكومي متردداً
وينقصه الحزم الذي تقتضيه المرحلة الحالية؛ وقد قاد هذا الخوف على المستوى الشعبي
لحالة من التنمر على الدولة التي لا تدري إلى أين توجه قوات الدرك عندها وأي جهة
ستضبط وأي جهة ستغض الطرف عنها فيعلو صوت الدولة وتهدد بأنها ستعاقب وفي الحقيقة
نجد أنها لا تعاقب أحداً.
ورافق كل هذه الحالات ظهور مجالس شعب أو برلمانات من نوع
مختلف عن تلك اللتي عرفنها قبل ما يسمى بالربيع تماهت من الحالة الجديدة وأصبحت
عوناً لمواقع التواصل على الحكومة في كثير من الأحيان ليس كرهاً للحكومة أو حباً
في هذه المواقع وإنما خوف من هذه المواقع
التي ما رحمت أحداً. وقد اتخذ أعضاء السلطة التشريعية من مواقع التواصل حصناً لهم
يمارسون فيه انتقاداتهم للحكومة بالإضافة لقبة البرلمان نفسها؛ فيستقبلون في صفحاتهم مريديهم من المنتقدين وقد
يصل الأمر أن يستقوي بهذا الصفحات بعضهم على بعضهم؛ ومن المفارقة أن هذه الأعضاء
أنفسهم لم يسلموا من التشهير والانتقادات على المواقع وأصبح الضرب فيها تحت الحزام
ليصيب بعض الأطراف في مقتل سواء كان ذلك على المستوى الشخصي أو العملي. وهذا ما
جعل أعضاء السلطة التشريعية كأعضاء الحكومة من ناحية عدم القدرة على اتخاذ القرار. ومن باب عدو عدوي صديقي ومن باب تلاقي المصالح
تلاقت أهداف الحكومة والتشريع لإصدار قوانين لمكافحة الجرائم الإلكترونية.
وأجزم أن قوى الفساد تناغمت مع هذه الأجواء ولعبت
أدواراً مهمة في الإبقاء على حالة التردد أو الخوف من اتخاذ القرار أو التردد في
الحزم على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية فنمت هذه القوى وتمددت واشتد عودها
فأصبحنا نسمع عن قصص فساد كبرى ما كان لها أن تظهر بهذا الصلف لو أن هذه الدول
استبدت مرة واحدة كما قال الشاعر؛ ولا
أدعي أن المراحل السابقة كانت خالية من الفساد، بل كان فيها فساد يماشي المرحلة ويُفسد
أصحابه على استحياء وليس كفساد هذه الأيام. فعندما يتم الكشف عن منظومة فساد تسمع
قصصاً تفوق الخيال حول تشكيلها وصلاتها وخيوطها وطرق حمايتها وما إلى ذلك لتنتهي
كما بدأت لغزاً صعباً.
وبين كل هذه الظواهر يطلع علينا المواطن (الغلبان) الذي
لا هم له إلا المحافظة على كيان بلده بعيدة عن كل هذه الفوضى إلا أنه في حيرة من
أمره فكيف يمكنه القبول في الفساد وفي نفس الوقت يريد دولة عصرية كسويسرا. وكيف له
أن يجتث الفاسدين (إدارياً واقتصادياً) وهو يعلم أنه في طريقه إليهم ستتدحرج رؤوس
أينعت على الفساد ولها جذورها وأتباعها وحماتها وربما يسقط الوطن الذي يترنح معهم.
فكان الله في عون هذا المواطن.
إذاً بدأ الربيع سياسياً وثنى اقتصادياً وثلّث باللامكانية
واللازمانية للدول كبُعد اجتماعي فايهم أشد ضراوة؟ هذه الأيام تظهر عبارات أو
هاشتاغات لوين رايحين؟ أنا أتنبأ أننا ذاهبون للوجه الرابع للربيع ولمزيد من
الفوضى التي سنتحسر عندها على فوضى هذه الأيام.
دمتم بخير.
https://elaph.com/Web/Opinion/2018/10/1221906.html