دعونا
نتوقف عن أحاديث السياسة والانتخابات مؤقتاً, فسأحدثكم اليوم حديث الهيل للدلّة
كما قال الشاعر عمر الفرا. فبعد أن كتبت
عن المنسف وطقوسه الاجتماعية في مقال سابق, أكتب اليوم عن القهوة العربية الأصيلة
التي تكافح من أجل البقاء في دلالها ساخنة تحي الضيف وتودعه. القهوة ألتي أصرت نيران الضرائب أن تلحق
بها لتجعلها بعيدة عن شفاه الأجاويد, لكن
هيهات, فكله إلا القهوة.
القهوة
العربية يا سادة يا كرام مشروب انتشر في
بلاد الشام والجزيرة العربية قبل أن ينتشر إلى باقي دول العالم على شكل نسكافيه أو
اكسبريس أو قهوة تركي. تنبت القهوة عربياً
طبعا في بلاد اليمن وهنا بالمناسبة لا أدري لماذا لا نستورد القهوة من اليمن بدلاً
من البرازيل, أم لعلهم يستوردون, لا أدري.
قديما
كان تحضير القهوة يمر بخطوات من تحميصها على النار بالمحماسة ذات الذراع الطويلة, إلى طحنها
بالنِجِر (المهباش) بصوت شجي هو صوت المهباش, وتُغلى على النار لمدة معينة ثم تترك
حتى ترسي, ويضاف لها الهيل و جوزة الطيب حيث ورد بالأغنية الشعبية : يا بهارها
جوزة الطيب. وتُصب بالدلة وتوضع قرب النار
أو بالسخان لتبقى ساخنة. ومن المفيد لنا أن نذكر سبب تسمية المهباش بهذا الاسم. يُحكى أن أحد الشيوخ كان يرسل خادمة واسمه
مهباش ليدعو الناس على طعامه إذا جاءه ضيوف. وبعد مدة الزمن توفي مهباش هذا. فأصبح صوت النِجِر بمثابة الدعوة للطعام, فقال
الناس عن صوت النجر هذا صوت مهباش الشيخ الجديد, وبهذا أصبح يطلق على النِجِر اسم
مهباش.
تسكب القهوة بكمية قليله في فناجين خاصة وتصب
للضيف أو لمن حضر. ويختلف حجم الفنجان من مكان إلى آخر ولكنها تتشابه في أنها ذات
فتحات أكبر من قاعدة الفنجان وليس لها مقبض. يقدم المعزب القهوة لضيوفه واقفاً بعد أن يبدأ
بنفسه مطمئنا الضيوف ليشعروا بالأمن. وتُسكب
كما يسكب الشاي المغربي بحيث ترفع الدلة الى الأعلى ثم تنزل على الفنجان محدثة
صوتاً عند التقاء الدلة بالفنجان لتنبيه
الضيف ان الفنجان قد جهز, ويقدمها لهم بيده اليمين, ويبدأ بالضيف ثم إلى من على
يمينه إلى أن ينتهي من جميع الضيوف. أما
القول السائد بأن القهوة عن اليمين حتى لو كان أبو زيد على الشمال فهذه عندما يكون
الموجودون محلية أي ليس بينهم ضيوف.
يتناول الضيف الفنجان بيده اليمين أيضاً
وباليمين يرجعه بعد أن ينتهي, ويقال ان من يتناول الفنجان باليسار أو يعيده للمعزب باليسار لا يستحق أن يعرض عليه
الفنجان الثاني إلا إذا كان من أصحاب الأعذار.
وبما أن عدد الفناجين محدود فلا يحبذ أن يحتفظ الضيف بالفنجان في يده طويلا
أو ينشغل بالحديث مع من حوله وهو يحمل الفنجان, إذ عليه أن يفرغ من الفنجان سريعا
حتى لا يبقى المعزب واقفاً وحتى يتمكن من تقديم القهوة لمن بقي من الموجودين. يعلن الضيف عن اكتفائه من شرب القهوة بهز
الفنجان. ومن العيب رفض القهوة بقول
"شارب قبل شوي, أو شكراً مش عاوز" وتوجب حق العرب لأن هذا انتقاص من قيمة المعزب.
يحدد
عدد الفناجين بثلاثة فناجين ولا يزيد عليها, لأن الزيادة عن ثلاث يعتبر طعناً في
جودة القهوة للمعزب ويقال أنها كالماء, إذ تكفي ثلاثة فناجين لتكيف رؤوس
الرجال. فالفنجان الأول للضيف وهذا يتساوى
فيه الجميع, ثم هناك الفنجان الثاني وهو للكيف أي لمن أعجبته القهوة ويريد أن يُكيّف
نفسه منها, ومن هنا فإن الفنجان الثالث إنما
هو للسيف أي في حالة الغزوات كان يعلن الشيخ أن هذا فنجان فلان فمن يشربه, فيشربه
احد الفرسان أصحاب السيف دلاله على قبوله المهمة التي كلفه بها الشيخ. ومن الغريب أن خبر فنجان فلان سرعان ما ينتشر إلى
أن يصل إلى الشخص المقصود.فيبحث صاحب الفنجان عن شاربه ويقابله ولا يعود إلا بقتله
أو يُقتل دونه. وبما أنه لم يعد هناك سيوفاً وغزوات ومبارزات, فالواجب يقتضي أن
تكتفي بفنجانين فقط.
إذن:
الفنجان
الأول للضيف
الفنجان
الثاني للكيف
الفنجان
الثالث للسيف
أما
الفنجان الرابع فقلة حيا بالضيف (المعذرة, هكذا سمعتها)
يعتبر
انتقاد القهوة تلميحاً أو تصريحاً من الأمور المعيبة بحق المعزب وتستوجب اللجوء إلى
القضاء العشائري. فلا يجوز الإشارة إلى قِدم
القهوة أو تغير طعمها أو درجة سخونتها, بل
تشرب القهوة عند الغانمين كما تقدم لك ثم تهز الفنجان وتقول دايمة إلا إذا قُدمت القهوة بالعزاء. وهنا دعوني أروي لكم هذه القصة المختصرة من
تراث البادية حول هذا الموضوع.
يحكى
أن شخصا طلب بنت شيخ القبيلة مرة وثانية وثالثة والشيخ لا يجيبه إلى طلبه ويرفض كل
الجاهات. فتم الاتفاق بين الشاب والبنت التي كانت تبادله نفس الحب أن تضع عشبة في
قهوة أبيها وينتقدها الشاب أمام الحضور. وفعلا تم ذلك وفي بيت الشعر وبعد تناول
الشاب الفنجان من القهوجي رشف رشفة ثم رمى بالفنجان وقال للشيخ: قهوتك صايدة ** يا
شيخ, فاستشاط الشيخ غضباً وقال وماذا إذا لم تكن صايدة فقل الشاب اقبل بحكمك أما إن
كانت صايدة فعلاً فتعطيني طلبي فوافق الشيخ. وعند سكب القهوة من الدلة على الأرض وُجدت
العشبة في القهوة فقال الشاب أنا طالب فلانة فقال له الشيخ جتك. يقال أيضا أن الشيخ والحضور أدركوا الحيلة وأن
قهوة غير صايدة أصلاً, ولكن لم يكن بوسع الشيخ التراجع عن طلب الشاب.
وللقهوة
معان أخرى غير تحية الضيف, فهي التي تطلب بها العرايس بمناسبات الزواج أو يفتتح بها الكلام بجاهات الصلح بين الأطراف
المتخاصمة. فيوضع الفنجان أمام كبير
الجاهة ليفتتح به الكلام حول الموضوع الذي
جاء من أجله. وتعتبر عبارة "اشرب
قهوتك, وابشر باللي أجيت فيه" علامة قبول الطلب. وهناك مفهوم خاطىء بهذا الخصوص عند بعض الناس
وهو إذا لم يتحقق طلبه يقوم ولا يشرب القهوة, وهذا لا يجوز, ففنجان القهوة إنما
يوضع طلباً للكلام فقط, لكن إذا لم يحصل الشخص على مراده فلا يجوز أن يضع المعزب
في هذا الموقف المحرج بعدم شرب القهوة.
كلنا نعرف طبعا أنه في حالات الصلحات
وخاصة بالدهس يأتي بعض الوجهاء بطلبات فيها تضيع حقوق لأيتام, فهل يجوز أن
نخسر حق الأيتام من أجل فنجان القهوة؟؟
وتطيب
القهوة بالمضافات والتعاليل عندما يكون الأهل والقرايب والعزوة مجتمعين فيقول كبير
الجالسين لأصغر الموجودين :" دير
هالقهوة عمو" فيبدأ الحديث ويتشعب والكل في لحظة صفاء نفسي. يقوم الناس إلى نومهم بعد أن يكونوا قد رتبوا
العالم على كيفهم وكما يحلوا لهم. وبما أن
هذه الأيام تشهد تجمعات كبيرة للانتخابات فان فنجان القهوة ربما يحسم التصويت لشخص
معين دون الآخر. وقديما قال الشاعر راكان بن حثلين
يا
محلا الفنجان مع سيحة البال // في مجلس ما
في نفس ثقيلة
هذا
ولد عم وهذا ولد خال // وهذا رفيق ما لقينا مثيله
شروا الحاضرين
هذه
نبذه سريعة عن القهوة العربية, فهل بعد كل هذا تستحق القهوة كل هذه الضرائب
الحكومية؟ إنني أقترح بدلاً من فرض الضرائب
صرف بدل قهوة للأردني لأن هذا إعانة له على الحفاظ على هذا الموروث الشعبي
الأصيل.
تحياتي لكم جميعا واشربوا قهوتكوا وابشروا
بالللي جيتوا فيه ويا هلا بيكم.
**
القهوة صايده للشباب الذي يجهلون ذلك دلاله على وجود حشرة بالقهوة غيرت طعمها.