المعايدة
كل عام وأنتم بخير. لا أقصد بالمعايدة المبلغ الذي ينفحه
البعض للأطفال الصغار بمناسبة العيد ولكني سأتحدث عن المعايدة وهي الزيارة التي
يقوم بها الأهل من الأب والإخوة الذكور للعنايا أو الرِحِم من أهلهم بمناسبة
الأعياد؛ والعنايا هُن البنات والأخوات المتزوجات. وسيكون حديثي عن مشاهداتي في
بلدتي الرائعة جديتا ومن تاريخ الستينيات. وبالمناسبة يقع المؤرخون للتراث في مطب
تعميم الخصوص؛ فيعممون ما هو خاص بمنطقتهم كما لو كان شأنناً أردنياً خالصاً؛ وقد
لا يكون كذلك. لهذا وجب التنبيه أن الحديث
هو عن المنطقة الفلانية بالتاريخ الفلاني حتى لا يحدث الجدل حول صحة المعلومة. تماماً كما يحدث بموضوع الفتاوى التي يفتي به
البعض حسب مذهبه فيقع الاختلاف الذي فسروه بأنه رحمة؛ فلا يوضح المفتي أنه يفتي
على المذهب الفلاني وليس العلاني.
أما عن المعايدة فكانت كما أذكرها بجديتا عبارة عن رطل
سكر ورطل رز بأكياس ورقية صفراء وعليها لزقة صفراء أيضاً، وقد أضيف لها لاحقاً
باكيت (سفط) سلفانا ذو اللون الوردي أو (سفط) ناشد إخوان. وكانت توضع العناصر الثلاث في منديل مربع (مِحْرَمَة)
تضم أطرافه بربطة ليسهل حمله. وكان من الملاحظ أن هذه المهمة يتوكل بها شخص معين؛
وكان هذا الشخص يرى في ذلك تكريماً له من قبل الآخرين. وكانت تكبر المِحْرَمَة حسب
الإضافات فمن الموسرين من كان يضيف لها بعض الإضافات، ربما مضاعفة الكمية. والمهم
في أمر المِحْرَمَة هذه أن الشخص الموكل بها يحرص على استردادها معه حتى يتم إعادة تدويرها لاحقاً عند باقي
العنايا. وبالمناسبة كانت المِحْرَمَة بما
فيها باستثناء السلفانا أو الناشد هي ذات المِحْرَمَة التي يحملها المُعَزًّون عند
زيارتهم لبيوت العزاء، وأيضاً يكون ذات الحِرص على استردادها.
وبعد أن ينتهي موسم العيد تتجه العنايا بما عندها من سكر
ورز للدكانة لبيعها للتاجر وعلى الأغلب يكون هو نفسه التاجر الذي باع العيدية لذويها؛
فيأخذها بنصف القيمة. بتلك الفترة كثر
الحديث عن جدوى السكر والرز كمعايدة، والسؤال عن إمكانية استبدالها بالنقد. وكان
هذا الحديث يُقابل بالرفض الظاهري بالبداية وبالبحث عن من يعلق الجرس باطيناً.
وكان لدى الجميع وخاصة من (يُشرَّف) بحمل المحرمة الرغبة بالانتقال إلى موضوع
النقد بديلاً لها.
كان موضوع النقد يقابل بالرفض الظاهري أيضاً من قبل
العنايا لسببين اجتماعيين وهما أنهن لا يردن أن يوصفن بالنظرة المادية؛ فالمهم
عندهن زيارة الأهل فهي أهم من كل المصاري. وكان المظهر الاجتماعي باحتفالية زيارة
الأهل بمحرمتهم الكبيرة السبب الثاني، وقد كانت العنايا تتباهى بكبر محرمة أهلها. وقد سمعت مرة انتقاد بعضهم لعائلة أخرى
جاءت لزيارة ابنتهم وهي (ترط) بأيديها؛ وترط بأيديها لمن لا يعرفها هي حركة اليدين
عندما لا تحمل شيئاً. يعني كانت الزيارة
بدون محرمة واكتفى أصحابها بالنقد بقيمة محتوى المحرمة.
وكان السبب الثاني مخرجاً مفيداً للانتقال لمرحلة النقد؛
فكان الخروج سلساً تدريجياً للمرحلة الثانية؛ فقد حرص الأهل على المِحْرَمَة مضاف
إليها مبلغ من المال وكان حوالي النصف دينار عند الغالبية (نص ليرة) والحديث ما
زال عن الستينيات. ثم بدأت المِحْرَمَة
تختفي تدريجياً إلى أن اختفت، ويقابل ذلك ارتفاع بقيمة التعويض النقدي الذي استقر
لفترة طويلة عند الخمس دنانير ( مخَمَّسة).
وكان هناك ارتياح لهذا؛ ثم طبعاً كان الارتفاع للعشر دنانير أو أعلى من ذلك
حسب الإمكانيات.
وقد كانت المِحْرَمَة أو التعويض النقدي للمعايدة أشبه
ما يكون بالتعويض النقدي للخبز بأيام دولة الرئيس الكباريتي أو التعويض النقدي
للمحروقات بعهد دولة الرئيس النسور؛ بمعنى أن العنايا كانت تتكلف لاستقبال أهلها
أكثر من محتويات المِحْرَمَة أو التعويض.
فكيف كان ذلك.
لقد كان العُرف السائد عند غالبية العنايا أن تعد الطعام
للزوار في العيد والذي غالباً ما يكون منسفاً طبعاً؛ ولأن الأهل من الذكور عادة ما
كانوا مُعَايدين أو مُعَايَدين فإنه كان من المتعذر عليهم أن يكونوا
متواجدين؛ لهذا كان الأكل مقتصراً على العَنِيّة
وأهلها. وإذا كان الأهل عندهم من العنايا الكثير فلك أن تتصور حجم الأكل الذي كان
يُطبخ والكمية التي يتبقى لأن هناك مناسف أخرى على الطريق. فكان التذمر يرتفع للخلاص من هذه العادة التي
استمرت لفترة إلى أن اختفت. وبقي موضوع
الحلو الآن هو السائد. هناك ملاحظات كثيرة حول الحلو إذ يتوجب عليك أن لا ترفض
الحلو حتى لو كان معك سكري.
لا أدري كم من الوقت يلزم للقفز عن موضوع الحلو في العيد
خاصة بعد تفشي أمراض العصر بين الناس كالسمنة والسكري. لكن يجب أن يكون هناك البدائل له، فليس من
المعقول أن يُلغى الحلو فهو آخر ما تبقى
من طقوس العيد؛ وليس من المعقول أيضا الغاء الزيارة لأنها هي الخيط الرفيع الذي ما
زال يربط العائلات ببعضها. فما الحل؟ أرجو
أن لا يخرج علينا أحدهم بفكرة استبدال العيدية بفكرة تحويل رصيد عن طريق زين مثلاً
واستبدال الزيارة الى مكالمة جماعية على الكاميرا. إلى أين تسير حركة المعايدة بين الأرحام؟
المهم كل عام
وأنتم بخير وبصحة وسلامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق