الأردن وقبلان والقدس والقرار الأمريكي
رغم كل الأجواء التي سبقت ورافقت وتبعت قرار الرئيس
الأمريكي المتغطرس بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل
والتي ظهر فيها عدة جهاتٍ عربية وإسلامية تحاول الوصول للأضواء مجدداً إلا أن الكل
يدرك أنه لولا التحرك الأردني منذ البداية لمر هذا القرار مروراً هادئا كالتي
سبقته من قرارات. هذه الانتفاضة الأردنية
الرسمية أولاً والشعبية ثانياً كانت قاعدة ارتكزت عليها كل الحراكات التي تلتها من
عربية وإسلامية وعالمية. ورغم جمال هذا
المشهد إلا أن الجميع لم يسأل السؤال التالي وهو من شقين الأول حول هذا السر في
العلاقة الأردنية المقدسية (وأريد أن أتجنب السياسة بعض الشيء فلم أذكر الأردنية الفلسطينية)؛
والشق الثاني هو عن سر هذه القوة الأردنية التي جعلت من بلد صغير قال عنه الشاعر
اللبناني سعيد عقل أنه "في حجم بعض الورد" يقف وحيداً في مواجهة القوة
الأعظم في العالم وهي أمريكا. وما هذه
المهارة السياسية الأردنية التي جيَّشت كل العالم ليقف صفاً واحداً بوجه أمريكا
ويعزلها عن كل دول العالم بما فيها أصدقائها التقليديين!
بداية وقبل مناقشة هذه الأسئلة أود الإشارة أن سبب غضبنا
الأردني والعالمي لاحقاً ليس من أجل القرار نفسه بل من أجل مصدر القرار وهو البيت
الأبيض الذي طالما تبجح برعايته لعملية السلام، وراهن عليه الكثيرون من أيام
السادات أن كل أوراق اللعبة في يد أمريكا؛ لهذا كان الافتراض أن هذا القابض على
خيوط اللعبة سيكون حيادياً على أقل تعديل ولو من باب الحفاظ على وجه أصدقائه في
المنطقة.
ترتبط العلاقة الأردنية مع القدس بما هو أكثر من
السياسية أو المصالح المشتركة أو مقولة
شعبٌ واحدٌ لا شعبين أو أي شعار آخر؛ إنها علاقة وجدانية عاطفية ارتبطت بالجزء
الثاني لفريضة الحج وهي رحلة التقديس إلى المسجد الأقصى ؛ وكان العرف عند الأردنيين
بعد رجوعهم من الحج أن يذهبوا إلى المسجد الأقصى فيقال أن فلان (بيقدّس: الفعل من
القدس) وهو بهذا يترجم الحديث النبوي حول المساجد التي يشد لها الرحال؛ والأقصى
هنا هو ثالثها. هل سمعتم بمسلم كغالبية كانوا يُقَدِّسون بعد حجهم؟ الأردنيون
فعلوها. وحتى ألخص للقارىء الكريم
الفكرة لابد من المرور على قبلان رحمه الله الذي جاء ذكره بعنوان
المقالة.
قبلان يا سادة يا كرام هو رجل كبير السن من قرية أردنية
بمحافظة عجلون اسمها أوصره سمعت به بعد هزيمة حزيران 1967 وفقدان الأقصى. هذا الرجل سمع بالهزيمة فلم يأبه أو يعرف ما
الأمر وما الهزيمة إلا عندما سمعهم بالدكان (وكانت الدكاكين في القرى كالمقاهي)
يقولون أن القدس احتلها اليهود فلم يكون اسم اسرائيل مشهوراً أو سهل النطق.
فقال بلهجته الأردنية المعروفة ( القُدِس بترقيق القاف) راحت!! ثم شهق ومات: ونقلت القصة أيضا باللهجة
الأردنية فقيل " قبلان طق ومات
عالقُدِس) وتعني كلمة طق أصابته
جلطة. وسؤالي هنا للقارىء الكريم "
هل سمعت بمسلم انجلط ومات من القهر حزناً على القدس؟ الأردني قبلان فعلها. أي
عاطفة هذه! إنها أكبر من كل الشعارات السياسية.
وقبلان حالة أردنية عامة بخصوص الأقصى ربما تتقدم على من
يبكون أمام الشاشات على القدس. كيف يُستغرب
من بلدٍ جُلُ هَمِّ أبنائه ومنهم كاتب هذه السطور أن يصلوا بالأقصى؛ إن غاية المنى
لدي وأنا الأردني منبتاَ وأصلاً أن أصلي في الأقصى وأزور القدس التي بدأ وعي
طفولتي في جبل الطور فيها مرافقين لوالدي رحمه الله عندما كان شرطياً هناك. لهذا كان التناغم الكبير بين كافة فئات الشعب
مع القرار الرسمي يقع عند الكثير في باب هذا العشق للأقصى؛ إنه عشق ندر وجوده، ولن
يتوقف هذا الحراك في الشارع إلا بقرار، أما الوجدان فلا يحكمه الا القلب؛ والقلب
دائماً صوب الأقصى.
أما الشق الثاني من التساؤل حول قدرة من في حجم بعض
الورد (الأردن) على الوقوف في وجه القوة رقم واحد في هذا العالم. وللتذكير فقط
أسرد قصةً على لسان دولة زيد الرفاعي (دماغ) السياسة الأردني في عهد جلالة الملك
الحسين طيب الله ثراه حول موقفٍ سياسيٍ مع أمريكا أيضا؛ وكان الوضع الداخلي في
الأردن لا يختلف كثيراً عن وضع الأردن الآن. الزمن كان في 1970 وقبل انفجار أحداث أيلول المعروفة، حيث كانت في
البلد حالةُ انفلات أمني كبيرة قادت لأيلول.
ذكر دولته أنه كان هناك ترتيب لزيارة مجدولة لوزير الخارجية الأمريكي
للمنطقة، فأرسل السفير الأمريكي في عمَّان للخارجية الأمريكية رسالة قال بها أن
الوضع بالأردن غير آمن ولا يُنصح الوزير بزيارة الأردن من ضمن جولته الشرق
أوسطية. فلم علم جلالة الملك المرحوم بهذا
حتى استشاط غضباً وأمر الحكومة بتوجيه رسالة عن طريق الخارجية للسفير الأمريكي
باعتباره شخصاً غير مرغوب فيه وعليه مغادرة البلاد. ولم يستجب جلالته لنصيحة دولة الرفاعي بأن
الوضع بالأردن لا يحتمل هذه المغامرة خاصة أن سوريا من الشمال والعراق من الشرق
والفدائيون يتأهبون للقفز على البلد يساندهم المتعاطفون داخلياً؛ فقال جلالته رحمه
الله من يقل عن الأردن أنه لا يستطيع حماية ضيفه لا مكان له بيننا؛ وهكذا كان.
وختم دولته بأن سأل المحاور ياسر أبو هلالة " هل سمعت بدولة في العالم طردت
السفير الأمريكي خاصة عندما تكون الدولة
بوضع غير مريح سياسياً واقتصادياً كالأردن.
الحادثة مسجلة ببرنامج للجزيرة مع ياسر أبو هلالة يرد فيها دولة الرفاعي على ترهات هيكل رحمه الله
وافتراءاته عن الأردن وعلى جلالة الملك رحمه الله. يمكن البحث عن المقابلة على
الانترنت.
إذا فهذه ليست
المرة الأولى التي تقول دولة كالأردن لدولة كأمريكا " كفى". وجاء هذا الموقف الأخير بعد سلسلة مواقف
اقتصادية في الأردن وشروخات سياسية في المنطقة كان للأردن مواقف لم تَرقَ لطموحات
الفرقاء واتخذوا موقفاً فاتراً مما يجري بالأردن اقتصاديا وغاب عنهم أن الأردن لا
يقايض اقتصاده بكرامته. في خضم هذا كله
جاء قرار ترامب بنقل سفارته ولا أدري هل كان هذا القرار نتيجة اعتقاد الرئيس ترامب
أن ظروف الأردن لن تسمح له بأن يقول لا، أو أن يكتفي ببيان استهجان وكان الله
بالسر عليماً. أخطأ من نصح الرئيس بهذا إلا
إذا أراد للرئيس أن يحرف كل سفنه ويبقى وحيداً بمواجهة العالم.
قوة (من في حجم بعض الورد) أبهرت العالم جميعاً؛ فبعد
انتظار لم يدم طويلاً بعد الموقف الأردني واتضح للعالم أن الأردن يصرخ في وجه هذا
المارد وما زال واقفاً صلباً فحذا حذوه الأقربون على خجل وببيان يحمل معاني النصح
أكثر من السياسية جاء بعدها المؤتمر الإسلامي في تركيا وكان الموقف الإسلامي أكثر
تبلوراً ووضوحاً جعل الموقف الدولي أكثر صلابة في وجه أمريكا في مجلس الأمن وتبعه
الموقف الأممي بالتصويت ليجعل من العالم نصفين العالم من جهة وأمريكا لوحدها في
الجانب الآخر. والملفت أن في النصف الأول
من كان يوقع لأمريكا على بياض كبريطانيا مثلاً.
لم تُقنع الأردن العالمَ لا بقوتها ولا ببترولها إنما
بالسياسة وصوت العقل. ولهذا يفخر الأردنيون بقيادتهم وسيبقون. وبانتظار عودة الرئيس الأمريكي عن قرار وإن كنت
أشك بهذا سيبقى الأردن يخاطب العالم بالحجة والمنطق وباللغة التي يفهمون. وبهذا
تعود فلسطين إلى الواجهة السياسية بتوهج جديد مدعومة بموقف عالمي لم يسبق أن توحد
حول هذه القضية قبل هذه الفترة كما يفعل الآن. فرب ضارة نافعة.
إن كان للباطل جولة فللحق جولات وإلى لقاء قريب بالقدس
عاصمة فلسطين لنصلي سوياً فيها إن شاء الله.
alkhatatbeh@hotmail.com