السبت، 12 ديسمبر 2020

عجبت له أن زار في النوم مضجعي

 ويحكى أن أمير المؤمنين الرشيد أرق ذات ليلة أرقاً شديداً، فقام من فراشه وتمشى من مقصورة إلى مقصورة، وقلقه زائد ونفسه محصورة، فلما أصبح قال: علي بالأصمعي، فخرج الطواشي إلى البوابين، فقال لهم: يقول لكم أمير المؤمنين أرسلوا أحداً خلف الأصمعي. فلما حضر أعلم الخليفة فأجلسه ورحب به وقال: يا أسمعي أريد منك أن تحدثني بأجود ما سمعت من أخبار النساء وأشعارهن؟ فقال: سمعاً وطاعة: لقد سمعت كثيراً ولم يعجبني سوى ثلاثة أبيات أنشدهن ثلاث بنات.

فقال له: حدثني حديثهن.
فقال: اعلم إذا أمير المؤمنين، أني توجهت سنة إلى البصرة فاشتد لعي الحر فطلبت مقيلاً أقيل فيه فلم أجد، فبنما أنا أتلفت يميناً وشمالاً، إذا أنا بساباط مكنوس مرشوش، وفيه دكة من خشب، وعليها شباك مفتوح تفوح منه رائحة المسك، فدخلت الساباط وجلست على الدكة وأردت الاضطجاع، فسمعت كلاماً عذباً من فم جارية حسناء، وهي تقول: يا أختي! إنا جلسنا يومنا هذا على وجه الصبوح، تعالين نطرح ثلاثمائة دينار وكل منا تقول بيتاً من الشعر، فكل من قاتل البيت الأعذب الأملح كانت الثلاثمائة دينار لها، فقلن: حباً وكرامة، فقالت الكبرى:
عجبت له أن زار في النوم مضجعي ... ولو زارني مستيقظً كان أعجبا
فقالت الوسطى:
وما زارني في النوم إلا خياله ... فقلت له: أهلاً وسهلاً ومرحبا
فقالت الصغرى:
بنفسي وأهلي من أرى كل ليلةٍ ... ضجيعي ورياه من المسك أطيبا
فقلت: إن كان لهذا المقال جمالٌ، فقد تم الأمر على كل حال. فنزلت عن الدكة وأردت الانصراف، وإذا بالباب قد فتح وخرجت منه جارية، وهي تقول: اجلس يا شيخ، فطلعت على الدكة ثانياً وجلست، فدفعت إلي ورقة فنظرت خطاً في نهاية الحسن مستقيم الألفات مجوف ألهاآت مدور الواوات مضمونه: نعلم الشيخ، أطال الله بقاءه، أننا ثلاث بنات أخواتٍ جلسنا على وجه الصبوح وطرحنا ثلاثمائة دينار، وشرطنا أن كل من قالت البيت الأعذب الأملح كان لها الثلاثمائة دينار، وقد جعلناك الحكم في ذلك، فاحكم بما تراه والسلام.
فقلت للجارية: علي بدواة وقرطاس.
فغابت قليلاً وخرجت إلي بدواة مفضضة وأقلام مذهبة، فأنشأ أقول:
أحدث عن خود تحدثن مرةً ... حديث امرئ ساس الأمور وجربا
ثلاث كبكرات الصحاري جحافل ... حللن بقلبٍ للمشوق معذبا
خلون وقد نامت عيونٌ كثيرةُ ... من الراقدين المشتهين التغيبا
فبحن بما يخفين من داخل الحشا ... نعم، واتخذن الشعر لهواً وملعبا
فقالت عروبٌ ذات عز غريرة ... وتبسم عن عذب المقالة أنسبا
عجبت له أن زار في النوم مضجعي ... ولو زارني مستيقظاً كان أعجبا
فلما انقضى ما زخرفت وتضاحكت ... تنفست الوسطى، وقالت تطربا
وما زارني في النوم إلا خياله ... فقلت له: أهلاً وسهلاً ومرحبا
وأحسنت الصغرى، وقالت مجيبة ... بلفظ لها قد كان أشهى وأعذبا
بنفسي وأهلي من رأى كل ليلة ... ضجيعي، ورياه من المسك أطيبا
فلما تدبرت الذي قلن وانبرى ... لي الحكم لم أترك لذي اللب معتبا
حكمت لصغراهن في الشعر أنني ... رأيت الذي قالت جميلاً وأصوبا
قال الأصمعي: ثم دفعت الرقعة إلى الجارية، فلما صعدت إلى القصر، فإذا برقص وتصفيق ودنيا دانية وقيامة قائمة، فقلت: ما بقي لي إقامة، فنزلت عن الدكة وأردت الانصراف، وإذا بالجارية تنادي وتقول: اجلس يا أصمعي.
فقلت: ومن أعلمك أنني الأصمعي؟ فقالت: يا شيخ إن خفي علينا اسمك فما خفي علينا نظمك.
فجلست، وإذا بالباب قد فتح وخرجت منه الجارية الأولى وعلى يدها طبق من فاكهة وطبق من حلوى، فتفكهت وتحليت وشكرت صنعها، وأردت الانصراف، وإذا بالجارية تنادي وتقول: اجلس يا أصمعي، فرفعت بصري إليها فنظرت كفاً أحمر في كم أصفر فخلته البدر يشرف من تحت الغمام، ورمت لي صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقالت: هذا صار لي وهو مني لك هبة في نظير حكومتك.
فقال لي أمير المؤمنين: لأي شيء حكمت للصغرى ولم تحكم للكبرى ولا للوسطى؟