الأحد، 21 أكتوبر 2018

العكاوي



الجانب الاجتماعي لبعض الأكلات الشعبية
لا شك أن الوظيفة الأساسية للأكل هي معيشية بالدرجة الأولى للإبقاء على الشخص حياً يرزق، لكن تفاوتت القيمة المادية للوجبات من وجبة لأخرى.  وكما يعلم الجميع أن مشيئة الخالق أن تصل العناصر الأساسية للغذاء قد وجدت في كل أنواع الغذائي سواء غالي الثمن أو الرخيص منه فلا يُعقل أن يكون البروتين فقط في اللحوم وبهذا يحرم منها الفقير.
يبقى الجانب الاجتماعي للغذاء وهو الذي يُعفي الفقير من الحرج إن كان غذاؤه من النوع قليل الثمن فلا بد من نسج القصص حولها لتوحي للآخرين بأن هناك جانب من الحظ عند الفقير ومنها ما يغطي خصوصا جانب القوة الجنسية عند الرجال (التي تشغل بال كل البشر وليس العرب فعلاً) فيصبح بعض غذاء الفقراء مطلباً للأغنياء فيشعر الفقير بالزهو عندما يشاركه الغني غذائه.
وبالمناسبة تشترك كل الثقافات بهذه الصفة فلا تقتصر على بلد دون آخر. لكني اليوم وددت التوقف عند أكلة مشهورة عند الإخوة المصريين وهي أكلة العكاوي.  فما هي العكاوي؟
أثناء وجودي في صلالة مررت بملحمة بسوبر ماركت يديرها لحَّام يفخر دائما أنه عمل عشرة سنوات بالأردن.  لفت نظري ذيل بقرة طويل وقد سلخ الجلد عنه وبقي الذيل الذي يشبه العمود الفقري.  لفت نظري هذا الذيل وسألت عنه فقال لي " ده العكاوي"  فقت له بالمصري بس بطريقة بدت عليها نغمة خيبة الأمل " هو ده العكاوي"  فقال نعم. تساءلت أي فائدة ترجى من ذيل البقرة كله عظم ويخلو من اللحم إلا ما علق بين فقرات الذيل فلم يُجب ولا أدري لماذا ، فعدت للسؤال عن فوائده الجنسية كما نرى بالأفلام المصرية عندما نراهم ينادون على عامل المطعم بأنهم يريدون طاجن عكاوي؟ فقال أحد الاخوة المصريين بأنه لازم الفقير لاقي حاجة ياكلها فأدركت أن القضية اجتماعية صرفة وتعزيز له ورفع من معنوياته الاجتماعية. وعممت طبعاً على باقي الأشياء المرتبطة بالموضوع.
ربما كانت الأكلات الأخرى مثل رؤوس الأغنام والبقر والكروش والبمبار  وفتة الكوارع والكلاوي وبيضات الأغنام تقع في نفس الباب.
المهم هل سمعتهم بالعكاوي من قبل؟  

السبت، 13 أكتوبر 2018

لغز الخاشقجي ولغز العرب


لغز الخاشقجي ولغز العرب
آخر ما رشح بالأخبار عن موضوع اختفاء الصحفي جمال الخاشقجي أن السعودية اقترحت وتركيا وافقت على تشكيل لجنة مشتركة للبحث في مسألة اختفاء الكاتب السعودي الخاشقجي الذي انشغل العالم بلغز اختفائه. وهذا يعني توقف التحليلات بانتظار نتائج التحقيقات (كما يقال عندنا بالأردن بالقضايا المهمة) وفي المحصلة النهائية تتوقف كل التكهنات وتبقى المسألة قيد البحث رهن القرار السياسي في الإعلان عنها أو لا.  ولأن التحقيقات عادة ما تطول  فإن المهتمين بالحدث (كما يحدث عندنا بالأردن أيضا) ينسون الحدث ذاته وينشغلون بغيره؛ فالأحداث كثيرة.
إن موضوعي ليس اختفاء الخاشقجي الذي تصر تركيا أنه دخل القنصلية وفي نفس الوقت تصر السعودية أنه خرج منها وبين الدخول والخروج لا يبقى إلا احتمال الرفع إلى السماء كمعجزة لم تتكرر من أيام السيد المسيح عليه السلام، فأنا أيضاً بانتظار التحقيقات.  ما يهمني هو الموقف العربي من الموضوع نفسه.
لقد اهتم العالم بالحدث وإن كان بدرجات متفاوتة بالقضية ولكن الملاحظ هو سكون الموقف العربي والكثير من دول العالم الثالث والتي جُلُها إسلامية أو فقيرة. لقد اختارت هذه الدول أن (تُكبِّر الجي وتروَّق الدِّي) أي تكبر جمجمتها، وتروَّق دماغها لتعتبره شأنا سعودياً داخلياً أكثر من كونه تركياً.  ومن المعروف عن السعودية عدم ترحيبها لا بل غضبها لدرجة القطيعة واتخاذ الاجراءات الاقتصادية لأي دولة تدس أنفها بالشأن السعودي الداخلي وما مثال دولة كندا عنهم ببعيد.
هل كانت هذه الدول العربية والإسلامية محقة بهذا الخوف من تبعات إعلانها ولو على خجل لموقف إنساني حتى لا تظهر أمام شعوبها بأنها بهذا التردد أو مُناصِرةً لمثل هذا التصرف للدول تجاه مواطنيها؟ هل أصبحت السعودية بهذا الوزن الكبير الذي يملك العصا الاقتصادية التي يهدد بها من يعاديها باقتصاده تماماً كما يفعل الرئيس ترامب الذي يملك القوة العسكرية؟ إن أمر السكوت في الدول العربية والإسلامية أمر مقلق فعلاً، فهل يتضمن الموافقة مثلاً على مثل هذه التصرفات؟  لقد كانت الشعوب تأمل إدانة الحدث نفسه دون الاشارة للجهة المسؤولة من باب الاحتياط حتى لا تتعرض للمساءلة، فهل هذا كثير؟  
وإذا نظرنا للمحور القطري الذي تتناغم فيه قطر وتركيا وإيران وسلطنة عُمان في مخالفة نهج المحور السعودي لوجدنا ماكنة قطر الاعلامية (الجزيرة) قد تناولته ببداية الأمر بالتحليل والاتهام  وأفردت له اللقاءات والبرامج باعتمادها على الموقف التركي الذي اعتبر الموضوع مساساً بسيادته باعتباره قد حدث على أرضه وهو كذلك فعلاً، ثم هدأت الأمور بعد أن أعلنت تركيا موفقتها على لجنة التحقيق، وطويت الصفحات.
وحتى أكون منصفاً فقد أحببت أن أتأكد من المعلومة فبحثت بالشبكة العنكبوتية لأرى إن كان هناك موقف عربيٌّ واحد فلم أجد؛ في حين أن هناك قائمة طويلة تتصدرها الولايات المتحدة ودولٌ أخرى ومؤسسات عالمية، كلها تحدثت عن الإسراع بكشف الحقيقة ولم تتهم أحداً.  هل استكثرت الدول العربية أن تقف موقفاً كهذا (الإسراع بكشف الحقيقة) حتى لا تظهر بهذه التبعية؟
ومن باب الإنصاف أيضاً فقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي تغريدات وتغريدات مضادة بين مذيعتين عربيتين إحداهما تعمل بقناة العربية وأخرى بقناة الجزيرة بعنوان ( ومن نافلة القول) وطبعاً كانت المواقف متناقضة فكل منهما تبنت موقف قناتها. وخلاف ذلك لم نسمع كلمة بالعربية حول هذا الموضوع باستثناء ما تدولها رواد الأنترنت كحال المذيعتين.  ألا يخشى مسؤولونا وهم يجوبون العالم أن يوجه لهم سؤالٌ مفاجئ في إحدى المؤتمرات الصحفية التي يعقدونها عن رأيهم فيما حدث بالقنصلية؟
السؤال المهم الذي يشغل بال المواطن العربي المغترب هو متى ستنتهي الدول من حوسبة الخدمات القنصلية فلا يحتاج المواطن لمراجعة قنصلية بلاده ليصدق شهادة ميلاد ابنٍ له فيكون بزيارته قد كتب شهادة وفاته هو!!
ننتظر التحقيقات فقد تظهر التحقيقات ولكن هل سنرى موقفاً للعرب بعدها؟



الخميس، 4 أكتوبر 2018

دول اللامكان واللازمان

دول اللامكان واللازمان
عبارةٌ "اللامكان واللازمان" بسيطةُ الشكل معقدة المضمون؛ باحت بها فنانةٌ عراقيةٌ قبل أيامٍ على راديو البي بي سي عندما سألتها المذيعة عن الرقابة في الدولة العراقية على الأعمال الفنية.  لم أتابع موضوع الرقابة وبقيتُ في عبارة اللامكان واللازمان؛  طوبى لكم أيها الفنانون كيف تختصرون الواقع في كلمات. فهل ضمت اللغة العربية عبارةً أوضح من تلك لتعبر عن حال العراق الآن؟
أهمية أخرى للعبارة أنها فتحت الآفاق للنظر لباقي دول العالم العربي التي تأثرت بموجة الربيع العربي والتي يمكن أن توصف أيضاً بأنها باللامكان واللازمان؛ فهل وضع ليبيا واليمن وسوريا أفضل من العراق؟ وهل وضع باقي الدول الأخرى التي هزتها رياح الربيع بقوة ولم تسقط أنظمتها أفضل من حال العراق من حيث اللامكانية واللازمانية!  لا أعتقد. نظرة بسيطة للتركيبة الاجتماعية والاقتصادية لهذه الدول تشير أنها في عين اللامكان واللازمان ولا يظن أحدٌ أن دول الرأسمال العربي أيضاً بعيدة عن هذه الظاهرة وإن ساعدتها ظروفها المالية للظهور بأنها ربما تكون أفضل حالاً، بل ربما كان وضعها أسوأ من باقي الدول؛ فانتظار المصيبة قد يكون أقسى من المصيبة نفسها.
ربما ساعدت القوة العسكرية في بعض الدول والاستخبارية في دول أخرى على التمهيد لظاهرة اللامكان واللازمان إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي أتت على أسس هذه الدول وأفقدتها توازنها وخرَّ على بعضها السقف؛ أنظروا إليها وهي تدّعي التماسك لتجد أن خلف هذا حالة من الرفض الاجتماعي لكيان الدولة ومن المؤسف أن بعضهم يعتقد أنه بهذا الرفض يُمَكِّن للدولة ويقوي أركانها وهذا أبشع حالات التِيه عند الشعوب إذا لا يدري إن كان يسير بالاتجاه الصحيح أم لا.
فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي وضح حجم الفوضى التي تعاني منها البلدان.  وقد لفَتَ نظري هذا البعد الاجتماعي للربيع العربي ببداياته وكتبتُ عنه قبل سنوات؛ وتحدثت عن الثقة المفقودة بيين الشعوب وكيان الدولة وإن تظاهروا بأن خلافهم مع الأشخاص لا الدولة نفسها، والسبب طبعا أنه في الدول العربية هناك ظاهرة غريبة وهي اختطاف المسؤولين أو الحكام للدولة، فلا تستطيعُ  أن تنتقد أداء الدولة دون أن تمر بانتقاد الحاكم وهذا يقلب عليك الموالين للنظام؛ وكذلك لا يمكن أن يكون ولاؤك للحاكم كاملاً إلا إذا وقّعت على بياض لسياساته في إدارة الدولة وهذا يثير عليك غضب الحراكيين والإصلاحيين؛ فظهرت هناك موجاتُ رفض كبيرة لكل من نادى بتحكيم العقل والتنبه لهذا الانحدار المتسارع للدول واتهم أصحاب هذا التوجه بأنهم (بألطف العبارات) موالون للنظام السابق أو الذي لم يسقط بعد، لكن المسميات أخذت أشكالاً أكثر قسوة في بعض الأحيان؛ وظهر الأمر كذلك جلياً في رفض الموجات البشرية ولا أقول الشعوب فالشعوب أتضح أنها عندما يَجِدُّ الجد هلامية تائهة لا هدف لها، وتسيح كقطرة ماء فوق صفيح معدني في كل اتجاه؛ وشمل هذا أيضاً رفضهم الكبير لرجال الدين فمن تحدث فيما يخالف  هذه الموجة أو تلك قيل عنه من علماء السلاطين أو من الخوارج وحل قتله.
وقد مهدت الحالة السابقة لخوف المسؤولين من موجات العنف والانتقادات المتناقضة أحياناً على وسائل التواصل الاجتماعي وحدّ من جرأتهم على اتخاذ القرارات الحاسمة سواء على مستوى الرئاسات أو الوزارات، فالكل يخاف من التوقيع على القرار وهو يعلم أنه بتوقيعه لن يسلم، لهذا جاء الأداء الحكومي متردداً وينقصه الحزم الذي تقتضيه المرحلة الحالية؛ وقد قاد هذا الخوف على المستوى الشعبي لحالة من التنمر على الدولة التي لا تدري إلى أين توجه قوات الدرك عندها وأي جهة ستضبط وأي جهة ستغض الطرف عنها فيعلو صوت الدولة وتهدد بأنها ستعاقب وفي الحقيقة نجد أنها لا تعاقب أحداً.
ورافق كل هذه الحالات ظهور مجالس شعب أو برلمانات من نوع مختلف عن تلك اللتي عرفنها قبل ما يسمى بالربيع تماهت من الحالة الجديدة وأصبحت عوناً لمواقع التواصل على الحكومة في كثير من الأحيان ليس كرهاً للحكومة أو حباً في هذه المواقع وإنما خوف  من هذه المواقع التي ما رحمت أحداً. وقد اتخذ أعضاء السلطة التشريعية من مواقع التواصل حصناً لهم يمارسون فيه انتقاداتهم للحكومة بالإضافة لقبة البرلمان نفسها؛  فيستقبلون في صفحاتهم مريديهم من المنتقدين وقد يصل الأمر أن يستقوي بهذا الصفحات بعضهم على بعضهم؛ ومن المفارقة أن هذه الأعضاء أنفسهم لم يسلموا من التشهير والانتقادات على المواقع وأصبح الضرب فيها تحت الحزام ليصيب بعض الأطراف في مقتل سواء كان ذلك على المستوى الشخصي أو العملي. وهذا ما جعل أعضاء السلطة التشريعية كأعضاء الحكومة من ناحية عدم القدرة على اتخاذ القرار.  ومن باب عدو عدوي صديقي ومن باب تلاقي المصالح تلاقت أهداف الحكومة والتشريع لإصدار قوانين لمكافحة الجرائم الإلكترونية.
وأجزم أن قوى الفساد تناغمت مع هذه الأجواء ولعبت أدواراً مهمة في الإبقاء على حالة التردد أو الخوف من اتخاذ القرار أو التردد في الحزم على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية فنمت هذه القوى وتمددت واشتد عودها فأصبحنا نسمع عن قصص فساد كبرى ما كان لها أن تظهر بهذا الصلف لو أن هذه الدول استبدت مرة واحدة كما قال الشاعر؛  ولا أدعي أن المراحل السابقة كانت خالية من الفساد، بل كان فيها فساد يماشي المرحلة ويُفسد أصحابه على استحياء وليس كفساد هذه الأيام. فعندما يتم الكشف عن منظومة فساد تسمع قصصاً تفوق الخيال حول تشكيلها وصلاتها وخيوطها وطرق حمايتها وما إلى ذلك لتنتهي كما بدأت لغزاً صعباً.
وبين كل هذه الظواهر يطلع علينا المواطن (الغلبان) الذي لا هم له إلا المحافظة على كيان بلده بعيدة عن كل هذه الفوضى إلا أنه في حيرة من أمره فكيف يمكنه القبول في الفساد وفي نفس الوقت يريد دولة عصرية كسويسرا. وكيف له أن يجتث الفاسدين (إدارياً واقتصادياً) وهو يعلم أنه في طريقه إليهم ستتدحرج رؤوس أينعت على الفساد ولها جذورها وأتباعها وحماتها وربما يسقط الوطن الذي يترنح معهم. فكان الله في عون هذا المواطن.
إذاً بدأ الربيع سياسياً وثنى اقتصادياً وثلّث باللامكانية واللازمانية للدول كبُعد اجتماعي فايهم أشد ضراوة؟ هذه الأيام تظهر عبارات أو هاشتاغات لوين رايحين؟ أنا أتنبأ أننا ذاهبون للوجه الرابع للربيع ولمزيد من الفوضى التي سنتحسر عندها على فوضى هذه الأيام.
دمتم بخير.

https://elaph.com/Web/Opinion/2018/10/1221906.html