السبت، 14 سبتمبر 2013

يتيم في الخمسين | كتاب عمون | وكالة عمون الاخبارية

يتيم في الخمسين | كتاب عمون | وكالة عمون الاخبارية

يتيم في الخمسين
" أمي ماتت" قلتها لزوجتي عندما سألتني  "شو فيه" بعد  أن أنهيت مكالمة قصيرة مع أخي في الأردن. قلتها و انفجرت في نوبة بكاء كطفل تركته أمه في يومه الأول في المدرسة بعد أن رأى أمه تبعد بعيداً من خلفه، و عصا المعلم تنتظره في الصف الأول. كانت الساعة الثانية و النصف من صباح يوم الأحد الموافق الثامن من شهر أيلول.  هذا اليوم التحقت الوالدة الجليلة أم طلال لتلحق بمن سبقها من عائلتها الطيبة أخوالي و خالاتي و رفيق الدرب و الطفولة أبن أخيها و صهرها  أبو هيثم رحمهم الله جميعاً، فهذا العام كان عام فراق الأحبة. 
ألحاجة أم طلال لم تكن يوماً ممن تقام المناسبات تحت رعايتهن، و لم تكن ممن يفتتحن الأيام الخيرية لرعاية الاسر المعوزة لتعيش العوز ساعة ثم تعود إلى أرستقراطيتها في إحدى الفلل البعيدة عن الفقر و الفقراء، و لم تلبس أم طلال الشرش (الثوب الأسود) كثوب فلكلوري في عرض أزياء شعبي.  هي (و الحديث هنا لمن يقاربني في السن) كأمهاتكم جميعاً؛ كانت هي الأم و الأب لنا عندما كانت إجازات الأب يومين أو ثلاث كل عدة شهور، يعود بعدها إلى عمله في القوات المسلحة أو الشرطة بعد أن وضع بيدها عدة دنانير لا تكفي لوجبة من الوجبات السريعة هذه الأيام كمصروف الشهر. هي كانت المربية  و مدبرة المنزل؛  هي الوجه الذي كنا نفيق على صوته صباحاً لنفطر خبز وزيت و شاي قبل الذهاب إلى المدرسة، و ننام على صوتها بعد أن تقول لنا (خلصتوا قراية يمه) فقد كانت حريصة على ذلك رغم أنها لا تقرأ و لا تكتب.   لهذا ليس من العسير عليكم التعرف  على أم طلال : فيكفي أن تنظر بوجه والدتك لتراها إن كنتَ ما زلتَ من المحظوظين بالنظر إلى وجهها الكريم. أم طلال و أمثالها عشن حياتهن مجاهداتٍ بهدوء و رحلن بهدوء كما كانت حياتهن دون ضجيج.
في عيد الأم الماضي ناجيتها بمقال على هذا الموقع بعنوان " إلى أمي في عيدها" و لم أكن أدري أنها ستكون المناجاة الأخيرة، و  استعرضتُ معها شريطاً من الذكريات، ذكرتها ببعض الأشياء  فلم يكن من الممكن استعراض هذا التاريخ الطويل بمقال. عرفت أن أخواتي قد قرأن المقال لها، فابتسمت رحمها الله البعض المواقف و دمعت عيناها لبعض الأمور و لكنها قالت " الله يرضى عليك يا طلال".  سعدت جداً عندما أخبروني بذلك.  هذا الصيف تحديداُ لا أذكر أنني رأيتها أكثر سعادة في يوم من الأيام كما رأيتها بهذا الصيف. كانت كلما رأتني  أو أحداً من أسرتي الصغيرة ( تهاهي و تزغرد). بنهاية الصيف شهدت أسرتنا فرحاً بزواج إبني أخي أمين: أنس و أنيس، فلم تسعفها قوتها أن تشارك في الفرح، فهي رفيقة كرسي متحرك ضمها بحنان لسنوات، و لكنها كانت تراقب من بعيد دخول العرائس و العرسان الذين اقتربوا منها و قبّلوا يديها طالبين الدعاء بالتوفيق، كانت تصفق و تغني  و تهاهي و تزغرد لوحدها كما لو كانت وسط كل هذا الغناء.  قبل سفري بيومين  حضرتُ لوداعها فقبّلت يديها و رأسها مودعاً و راجياً الدعاء.  عدت محمّلاً بالدعوات بالتوفيق و الكثير من أقراص العيد من صنع أخواتي و إشراف أم طلال.
لا اعتراض على حُكم الله و لا راد لقضائه و لا مغير لمشيئته، فقد شاءت إرادته جل و علا أن تفيض روحها الطاهرة و أنا بديار الاغتراب بعيداً عنها، و لن ألعن الاغتراب  فلم نغترب رفاهية  طبعاً. لكن عز علي أن تذهب دون أن أسمع كلمة المسامحة منها؛ ينتابني شعورٌ بالحزن و الأسى لذهاب التي كنا نُرزق بسببها، و أُغلقت إحدى طرقنا إلى الجنة و هي طريق الأم، و عزاؤنا أن الأخرى موجودة بوجود الوالد العزيز أطال الله في عمره و أعطاه الصحة و العافية. و أحسست بشعور باليُتم لحظة سماعي بخبر وفاتها؛ أدرك حديث الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم أن "لا يتم بعد إحتلام"؛  إنما هو مجرد شعور لا أستطيع اخفاءه، فأنا لآ أطالب بكفالة اليتيم، و لكني  لا أدري ما الذي جعلني أقول لزميلي  من السودان الشقيق الذي جاء النادي الاجتماعي الأردني بصلاله معزياً بوفاة الوالدة أنني أشعر باليتم بعد وفاة الوالدة؛ و دار حديث مع من حضر من الإخوة الأردنيين و العُمانيين و السودانين و اليمنيين  من زملائي بالكلية حول دور الأم و أثرها في الأسرة.   
أليوم هو مرور  أسبوع لحلول الوالدة الحاجة مريم (أم طلال) ضيفة برحاب المولى عز وجل و أدعوه أن يغفر لها ويكرم نزلها و يوسع لها في دارها و يحشرها مع الصالحات من عباده إنه هو البر الكريم.  إن القلب ليحزن و إن العين لتدمع، و إنا على فراقك يا امي لمحزونون، و لكن لا نقول إلا ما يرضى الله و رسوله " إنا لله و إنا إليه راجعون".
كل الشكر و التقدير و العرفان لمن تفضل بالحضور إلى بيت العزاء بجديتا مُعزياً إخوتي أو إلى النادي الاجتماعي الأردني بصلاله لتعزيتي و من تفضل كذلك بتقديم التعازي على صفحتي على موقع التواصل الاجتماعي  الفيس بوك و تويتر أو اتصل هاتفياً معزياً. لكن و الطمع بالأجاويد أمثالكم أرجو ممن قرأ هذا المقال أن يقرأ الفاتحة على روح والدتي الحبيبة  رحمها الله و يدعو لها بالمغفرة.
لا يتم بعد احتلام، و لكن اليتم بوفاة الوالدة بعد الخمسين شعور مختلف، فإذا مررتم بمن تيتم بعد الخمسين فارأفوا به و واسوه فإن مصابه جلل.
رحم الله الوالدة و رحم أمواتكم.
لا أراكم الله مكروها بعزيز.          


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق