القدس في كتاب الدكتورة نهال مهيدات
إهداء كريم من الدكتورة نهال مهيدات في الصيف الماضي جعل
للإجازة هذا العام معنى آخر؛ فقد كانت إجازة اقتصرت على فترة عيد الفطر، إلا أنها
حملت إلي إهداء الدكتورة نهال و هو نسخة من كتابها _ القدس في الخطاب الشعريّ
العربيّ و الخطاب الشعريّ العبريّ الحديث (1967 – 2012). لقد رأيت في هذا الكتاب إضافة لقيمته الأدبية و
التاريخية نوعاً من وفاء الطالبة لإستاذها الذي درّسها في كلية حوارة بالنصف
الثاني من الثمانيات، و لا يعلم سحر هذه الإهداءات على الأساتذة و هم على أبواب
التقاعد إلا المتقاعدون أنفسهم. لهذا حرصتُ
على أن يرافقني الكتاب أينما ذهبت و حتى بالطائرة أثناء الرجوع لصلاله، و كنتُ أحرص على القول أن هذا الكتاب إهداء
لطالبة تجاوزت أستاذها علمياً فكان لها هذا الإنجاز الكبير. فكل الشكر للدكتورة نهال على هذا الكرم و
الوفاء.
و لا أخفيكم أنني وجدت لغة الكتاب منذ الحرف الأول صعبة
كأنها تنحت من صخر، فقلت لنفسي هذا ليس كتاباً كباقي الكُتُب بالتأكيد، ليتبين
لاحقاً أن هذا الكتاب إنما هو أطروحة الدكتورة نفسها، و هذا كان فصل الخطاب. و لا أخفيكم أيضاً أنني كنت ابتسم أثناء القراءة و أنا استرجع
ذكريات الزملاء الكرام من تخصص اللغة
العربية ببداية الثمانينات عندما كانوا يتحدثون عن البِنويّة في اللغة التي ربما
كانت حديثة العهد بتلك الفترة، و كان الحديث فيها على سبيل التندر؛ و كان استرجاع
هذا التاريخ الاجتماعي جزأً من إصراري على
تكملة الكتاب رغم قوة لغته التي تجعل من غير المتخصص غير قادر على التركيز و
المتابعة أحياناً.
و يظهرُ موضوع القدس الذي شغل العالم كدافع آخر لقراءة
الكتاب لما لموضوعه من أهمية على الساحة الدولية كمحور للصراع العربي الاسرائيلي الذي
لا يظهر له بالأفق أي نهاية. و للقدس في
النفس ذكريات لا تُنسى على المستوى الشخصي فعلى ثرى جبل الطور درجتُ بمرحلة
الطفولة ( بعمر الولدنة) مع أقران هناك و درست نصف العام الدراسي بمدرستها. و ما
زالت قبة الصخرة بضيائها اللامع بالعقل الباطن و لن يفارقه؛ و في أسواقها رافقت الوالد (الشاب الشرطي أبو
طلال) عندما كان يصطحبنا هناك للتسوق و خاصة إلى ألاسواق الأثرية. فكانت ذكريات قُدِّر لها أن تتوقف عندما نُقل الوالد ليعمل بجزء آخر من فلسطين و هو
الخليل، فكان القرار أن نعود برفقة خالي ( أبو سليمان رحمهما الله) و بشاحنة
السائق (أبو ابراهيم) من قرى القدس فعدنا إلى جديتا، و العود أحمد.
كنتُ قد عزمتُ على الكتابة عن الكتاب من ذلك الوقت الذي أنهيت
فيه قراءة الكتاب و لكن الأحداث تسارعت فطغى الحدث على الآخر فكان التأجيل مرة تلو
مرة إلى أن قُدِّر له أن يكون هذه الأيام، ربما ليتوافق مع هذه الهجمة الصهوينة
الشرسة على الأقصى هذه الأيام. و كنتُ
أتابع قبلها تلك الندوات الكثيرة التي كانت حول القدس و التي شاركت بها الدكتور
نهال إلى جانب علماء أفاضل و آخرها الندوة التي أقيمت بمبادرة من نادي كفرنجة بعجلون
بالتنسيق مع الدكتور رفعت الزغول. و كان
يشغل بالي كثيراً ما ستقوله الدكتورة نهال بمثل هذه اللقاءات، فالكتاب يحوي الكثير
من المعلومات الموضوعية حول القدس و هذا الصراع الأزلي بين الأديان؛ و لو كنتُ
بالأردن لحضرت كل ندواتها حول القدس. فما
سيقوله الشيخ و المؤرخ عن القدس معروف، و لكني كنت بحاجة لأسمع كلام الأدباء،
أصحاب البيان؛ إن من البيان لسحراً.
و بالعودة لموضوع الكتاب نفسه فإنني لا أقدم نفسي مُحكّما
لما جاء به أو ناقداً له على المستوى الأدبي أو الفني؛ فالكتاب نال موافقة من هم
أقدر مني على ذلك و هم لجنة مناقشتها للدكتوراة، و لكني سأعرض لمجوعة خواطر
استنتجتها من كل هذه الكنوز الأدبية التي عرضت لها الدكتور نهال بين دفتي كتابها؛
كنوز أين منها كنوز هرقل أو الإسكندر المكدوني و لا يهم الإسم لأن الأردنيين لم
يتفقوا بعد على اسم صاحب الكنز الحقيقي إياه. هذا الكم الكبير من المعلومات تاريخياً بمعرض
حديثها بمقدمة الكتاب أو بالدراسات السابقة أو بالشعر العربي أو العبري موضوع
الدراسة قد قال الكثير بالنسبة لي. و هنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه قناعاتي و
ربما تخالفني فيها الدكتورة نهال نفسها, فإن أصبتُ فمن الله، و إن أخطأت الطريق
فمن نفسي.
الخاطرة الأولى التي تبادرت إلى ذهني هي أن أكثر الدول و
المناطق توتراً هي المناطق التي ما زالت تعيش التاريخ و تجتره كلما تحدث العالم حولها
عن المتستقبل. فكلما أوغل من حولهم
بالانطلاق إلى أفق جديدة ازداد عشاقهم للتاريخ حفراً في سراديب الماضي ليقبعوا فيه
و ليعشيوا فترة جميلة من الماضي الذي يعجزوا أن يحققوا و لو جزءا يسيرا منه في الحاضر. لهذا تبقى أمة كان و أخواتها في التاريخ و في
صراع مع حولها و مع نفسها.
أما الخاطرة الثانية و هي حول القدس تحديداً و هي أن كل
المدّعين بأحقيتهم بتملك القدس هم من أتباع الدينات السماوية الثلاث التي يقول أتباع
كلٍ منها بأنهم الأفضل و الأصح على وجه البسيطة. و الغريب بالأمر أنهم جميعاً و في
أثناء تأكيدهم على تقبلهم للآخر ضمن حكمهم الا أنهم بالواقع يسعون لإقصائه، مما
يثير عند الآخر رغبة جامحة للمطالبة بحقه، و ربما يلجأ إلى القوة لذلك. و هنا يأتي
دور الخاطرة القادمة، و لكن قبل الانتقال لها نطرح السؤال التالي و هو إن كان حقاً
ما يقوله رجال الدين عن كل عبارات السماحة عند الجميع و بحرية الأديان فلماذا إذاً
هذا الصراع الذي نشهد، و الذي يلعب فيه رجال الدين الدور الظاهر في شحن البشر ضد
أتباع الأديان الأخرى. و بالمناسبة أنا لا
أتحدث عن أتباع دين معين، فالكل سواء و قد مارسه الجميع عندما تفوقوا بفترات زمنية
معينة من التاريخ.
الخاطرة الثالثة و المنبثقة من السابقة و هي أن رجال
السياسة يقتنصون فرص الصراعات الدينية ليركبوا هذا الشعور بالاضطهاد الديني
فيدعمونه و يثيروا الصراعات الداخلية التي تنهي بإرسال القوات للاحتلال في هذه الأراضي
المقدسة و لا أريد أن أضرب الأمثلة فالهَمُّ سيطال الجميع أيضاً، فكل أصناف
الإحتلال جاءت كما يقول أصحابه لإنقاذ البشرية؛ فيكون عندها الظلم و القهر السياسي بغلاف الدين و يتم اغتصاب الأراضي و تشريد سكان
المنطقة لتثبيت واقع جديد يرفضه أهل
المنطقة المحيطة أيضاً.
و لكني هنا أستدرك قبل الانتقال للخاطرة الرابعة لأعلن
عن حيرتي فعلاً، و لا أدري هل هي السياسة التي ركبت الدين أو الدين هو الذي ركب
السياسية؟؟ لا أعرف حقاً؛ لكني متيقن أن هذا المُركَّب الجديد للسياسة و الدين هو
الذي جلب كل هذه الحروب على هذه المنطقة؛ فبإسم الدين تم احتلال الدول و تقويض
الأنظمة و قتل و تشريد الشعوب عبر العصور.
و قد تم أخذ التطور الزمني بالموضوع فكان التصنيف مؤمن – كافر ليصبح لاحقاً
مسلم - مسيحي و مسلم – يهودي، و مسيحي يهودي و يهودي مسيحي و العكس بالعكس. ثم ها
هو الآن يتطور ليصبح التصنيف مذهبياً و النتيجة مزيد من القتل و التشريد.
الخاطرة الرابعة هي ثقافية، و أخص بالذكر هنا الشِعر
كخصوصية لكتاب الدكتورة نهال؛ فبعد أن أكل الثقافيون عقولنا بالبُعد الإنساني
للثقافة و الشعر خصوصاً، و جدنا أن بعض منظري الثقافة و الشعر تخصص بالتثوير و
التحريض على الطرف الآخر لاعتقاده أنه صاحب الحق الأول و المظلوم في حين أن الآخر
هو محتل و غاصب لهذا الحق التاريخي. فتم
صياغة القصائد التي تخصص بها شعراؤها بهذا المجال و حققوا مجداً ما كان يمكن أن
يحققوه إلا إذا سلكوا شعر المرأة؛ لا بل أن شعر التثوير قد فاق شعر المرأة مما دفع
بشاعر كنزار قباني لترك المرأة و سلوك شعر الثورات لأنه أكثر بريقاً و حضوراً على
مستوى الإعلام. و من المفارقات طبعاً أننا
لم نسمع بأي من هؤلاء الشعراء قد حمل البندقية أبداً، إلا عندما كانت الثورات تقع
تحت بند " شوفيني و شوفي طولي".
ما خلصتُ إليه من كتاب الدكتور نهال مهيدات عن القدس هو
أن هذا الصراع بين الأديان على القدس سيقى
صراعاً أزلياً إلى أن تقوم الساعة كما جاء بالحديث الشريف الذي يحمل في ثنياه وصفا
للصراع أكثر من البُشرى بالنصر كما يراه البعض.
أي نصر هذا الذي سيأتي عند قيام الساعة بعد أن يحول المنطقة المقدسة و ما
حولها إلى دمار كامل، فعندما يختبئ اليهودي خلف الحجر فهذا يعني أنه لم يبق هناك
لا بيت و لا ملجأ و لا شجر في المنطقة.
إن الصراع على القدس
هو صراع ديني يخص الأديان الثلاث و لا يقتصر على الصراع الإسلامي اليهودي،
فلو قُدِّر لأحد الباحثين بالموضوع ربما
برسالة دكتوراة قادمة لأن يضيف متغيراً أو بُعداً آخر ألا و هو الشعر الانجليزي
لوجد الكثير من الإشارات المسيحية للقدس منذ القديم؛ و منها من آتى أكله أيام
الحروب الصليبية المعروفة. و عندما تُحل
هذه المعضلة ربما نجد حلاً لقضية القدس و المناطق الدينية و المنطقة بأسرها بشكل
عام.
و لهذا أرى أنه لو كان أتباع الديانات ( و لا أتحدث عن
الأديان نفسها، فهي مصدرها واحد و لا يمكن أن تتناقض) مخلصين لدياناتهم لتنادوا
إلى كلمة سواء، و وجدوا الحل الشافي لهذه المدينة المقدسة التي يسميها الجميع
مدينة السلام. فهي المدينة الوحيدة التي
التقت فيها الأديان السماوية الثلاث و تركت فيها آثاراً واضحة يتنافس أصحاب الديانات
على طمسها ليدحضوا حق أصحاب الدين الآخر بها.
و حتى تكون القدس مدينة السلام حقا كما أرادها الله جل و علا فلا بد أن نخرجها
من عباءة السياسة، و حتى نخرجها من هذه المِظلة فلا حل لها إلا بالتدويل لتكون
كياناً دينياً فقط، و بهذا نخرجها من مأساتها.
لماذا لا يكون لها مؤسسة شبيهة بالفاتيكان ليتوقف الطمع السياسي فيها و حب
تملكها بعد أن يكون الوصول للاماكن المقدسة سهلاً للجميع، و هنا أتحدث عن الأماكن
المقدسة فقط و ليس القدس حتى لا يُساء فهمي. و يصاحب هذا تسهيلات لإقامة زوار المقدسات بالقدس
بعد أن تكون هناك ضمانات دولية يحترمها الجميع.
و هنا و بمناسبة فكرة التدويل أجد أن الوصاية الهاشمية على
الأماكن المقدسة في القدس قد تكون الحل
الأمثل لهذا، فالهاشميون بتاريخهم الطويل من التسامح و الوسطية و تقبل الرأي الآخر
مقبولون لكل الأطراف بما فيها الأطراف الدولية.
و لا يعارض وجودهم بهذا المكان إلا من يرغب بأن يكون مكانهم فقط حتى لو كان
كان من خارج أقطار العالم العربي. و أتوقع أن ظهور مفهوم الوصاية الهاشمية في
معاهدة وادي عربة ربما كان بداية التفكير في إيجاد مثل هذا الكيان.
ختاما أكرر الشكر للدكتورة نهال مهيدات على إهدائها هذا
الكتاب لي لما فيه من فائدة جمة و معلومات أكدت ما كان لدي من تصورات سابقة حول
موضوع القدس. و لا أدري إن كانت الدكتور
بكتابها هذا قد خلصت إلى ما خلصتُ أنا إليه من أفكار أو كانت لها استنتاجاتها
الخاصة، لكن كلي أمل أن تكون قد قالت في ندوات القدس المتعددة ما لم يقله الكثيرون
من أفكار نعرفها جميعاً. لقد جاء في هذا
الكتاب الكثير مما يجعلها متميزة عن غيرها.
شكراً دكتورة
نهال مهيدات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق