معاذيات معاذ الكساسبة
عندما ولد الشاب معاذ الكساسبة كان ابناً لأمه و أبيه؛ و
عندما درج أول خطواته بفناء الدار أصبح ابناً لعائلته الصغيرة؛ و عندما خرج إلى
مجتمعه أصبح ابناً للكرك. لكنه عندما وضع
إشارة النسر على صدره أصبح ابناً للوطن كله.
لهذا ليس غريباً أن نرى هذا الالتفاف الكبير حول اسمه عندما امتحنه الله
ليكون ابناً للإنسانية كلها؛ ابناً للخير في مواجهة قوى أجمع العالم كله عليها أنها
تشكل حالة خروج عن القانون البشري و الإنساني.
و عندما قرر الأردن الدخول في معسكر الخير ممثلاً بأبنائه
النشامى أتراب و زملاء النسر معاذ الكساسبة كان يعرف أن الظُلمة لا بد لها من شموع
تنير دياجير ظلمتها؛ فلم يتوقع أحد أن تكون هذه الحرب بمثابة نزهة. فهذه القوى الشريرة
لها أيضا من يدعمها و يوجهها حتى و إن
تدثر بدثار التقوى و حب الخير للجميع.
فهذا الصراع لن يكون سهلا و قصير الأمد؛ لأنه على ما يبدو يمهد لوضع سياسي
جديد في المنطقة كلها تكون إسرائيل هي الفائز الوحيد فيه. لا بل أن هذه المنطقة ربما تشهد عودة القوى
الاستعمارية من جديد و لكن بثوب مختلف. فهذا الصراع هو مما ابتلى الله به هذه البقعة من
العالم لأمر يعلمه الله وحده.
و لأننا أمة توحدنا الأزمات فقد توحد الأردنيون جميعا
حول هشتاغ الوطن ممثلاً بالكابتن معاذ الكساسبة.
التف الجميع حول معاذ داعين الله أن يفك أسره و يعيده إلى أهله سالماً
معافى بإذن الله. و سيعود النسر إن شاء
الله إلى عُشه بين رفاق السلاح من النسور الأشاوس ليحلق من جديد في سماء الأردن.
سينير بيته من جديد و سيظهر و جه أبيه المربي الفاضل مجدداً و سيقر عين
والدته و زوجته و أطفاله. لكن قضى الله و
ما شاء فعل.
كانت الفقرات السابقات مقدمة لمقال يوم أن وقع الشهيد
أسيراً بيد هذه العصابة المارقة على على كل دين و عرف؛ لكني لم أستطع إكمال المقال
لمشيئة يعلمها الله تعالي. ربما ليضيف الشهيد بُعداً آخر للمقال حتى تكتمل سلسلة
المعاذيات التي أضاء بها الانسانية جميعها.
فمعاذ عندما اختار له الخالق هذه النهاية وحّد العالم
أيضا ليصبح ابنا للإنسانية كلها؛ لقد سبق
أن توحدت الانسانية حول أحداث كما حدث بضرب مركز التجارة العالمية و لكن لم نشهد
توحدها حول شخص كما حدث بالتوحد حول شخصية الشهيد معاذ الكساسبة. لهذا فقد أرتقى الشهيد ببنوته من أن يكون أبنا لعائلة صغيرة العدد في الكرك ليكون حيث يجب أن يكون ابناً للعالم
كله بأديانه و أعرافه و أولوانه.
و المعاذية الثانية
هي أنه باستشهاده بهذه الطريقة الهمجية التي أرعبت جميع من شاهدها قد أظهر
حقيقة داعش و جُبْنها بعد أن ضخم الإعلام صورتها لترعب الدول فتنهزم أمامها
الجيوش. نعم تقدم كما جاء بالقصيدة "منتصب القامة يمشي" إلى قدره، رافع الرأس شامخا ينظر
إليهم بازدراء، و هم مختفون حول أقنعة؛ شخص أسير أعزل إلا من إيمانه بالقضاء و
القدر و الشجاعة التي ورثها من جدوده بالكرك و عززها من بطولات الجيش و جلاّدوه مدججون بالأسلحة. هذه الوجوه التي لم يهتم لها معاذ انهزمت
أمامها الدول. لم أشاهد الفيديو و لن أشاهده
رغم أن أحد الأصدقاء أرسله لي فحذفته فوراً؛ و أعجب ممن ملك الجرأة ليشاهده كاملاً. إذاً فالدول خافت و سلمت ديارها خوفا من هذه الوجوه التي ضخمها الإعلام ليصبحوا بهذه الضراوة، و معاذ واجهها بصدره.
و بنفس القدر الذي كان لرُقيِّه لجنة الخلد الفضل في كشف
حقيقة داعش التنظيم فقد كان له الفضل أيضاً في لفت نظرنا أيضا إلى دواعش
الداخل. ليصبح حال الأردن كما قال الشاعر:
و سوى الروم خلف ظهرك رومٌ // فعلى أي جنبيك تميل
نعم إلى متى سيبقى هذا الوضع قائماً مع دواعش
الداخل، لا أحرض على أحد طبعاً و لا يهمني
الشيخ الفلاني هل شجب أم لا؛ أو استنكر أو وافق؛ أو ظهر هذا الوجهة على
الجزيرة أو غيرها لينعق بأنكر الأصوات.
فقد اعتدنا على هذه الوجوه من
زمان؛ هي هي ذات الوجوه؛ تحت المظلة ذاتها
و هي مناكفة الحكومة. لكن ليس من المعقول
أن نبقى بعد كل حادثة نتخوف من أي تصرف متوقع من هذا التنظيم أو ذاك إذا تهيأ لأحدهم
أن صف الأردنيين قد ضعف.
لا يقلقني الأشخاص نفسها كما أسلفت، لكن ما يقلق
هو تنامي منابع الدواعش بالأردن و من يقول بأنه لا يتنامى يغفل
الحقيقة كلها. هناك تغلغل باسم الدين بين فئات المجتمع كاملا
يشيع كل أشكال التطرف و شرذمة المجتمع و تفتيته دينياً فيفرقون بين أبتاع هذا
الدين و ذاك ليصلوا بعد ذلك و قد وصلوا إلى
تفرقة الدين نفسه و كل منهم يدعي أنه الوحيد على حق. و في الوقت الذي يضعف فيه
القانون و سلطة الدولة أو تنشغل بقضية خارجية تراهم يظهرون؛ ففي الربيع العربي رأيناهم و في الأزمة السورية رأيناهم ورأينا
تناغمهم مع ما يجري بسوريا بمختلف أطيافها
ضد الأردن، و في حربنا على داعش أيضاً ظهروا، و عندما أُسر الشهيد ظهروا و عند
استشهاده ظهروا. فإلى متى؟
نحن لداعش و من وراءها في الخارج و لكن دواعش الداخل يقف (ذوي القربي) بيننا و بينهم. فألى متى؟
و كجزء من تجفيف منابع الداعشية يمكن في المدرسة؛ يجب أن
يكون هناك دراسة مستفيضة تكون كنتيجة لمعاذيات
الشهيد. نريدها دراسة لمناهجنا؛ ففي ديننا الحنيف الكثير مما يمكن تلتقي حوله
كل الديانات لوسطيته؛ و ليس المطلوب من أبنائنا أن يخرجوا فقهاء في فن الاختلافات
المذهبية. و يجب تأهيل المعلمين لهذه
المهمة ليكونوا أيضا وسطيين يجمعون و لا يفرقون.
و من تجفيف المنابع أيضا هو البعد الاقتصادي؛ فالداعشية تنمو و تمتد في
جيوب الفقر. فلماذا نترك هذه الجيوب رهينة
للمساعدات التي يدور بها أصحاب الجمعيات على هؤلاء الفقراء فيجعلهم رهناً لإشارة
منهم فيتحركون لأنهم مقتنعون بأن الحكومة لا تعطيهم حقهم من مال المسلمين.
ولكل ما تقدم
سيبقى معاذ الكساسبة الشهيد الحي عند ربه
رمزاً عالمياً و وطنياً و فخراً للأردن و فخراً للجيش العربي الذي عاش معاذ بين
صفوفه و فخراً لوالده و والدته الذين علموه حب الوطن و التضحية في سبيله.
بكل ما يستحق الشهيد من عبارات التعازي نعزي باستشهاده
جلالة القائد الأعلى لقواتنا المسلحة و
لجميع فصائل جيشنا الأبي و خاصة رفاقه في سلاح الجو.
و إلى والد
الشهيد و والدته و زوجته و كل العشيرة الكبيرة نقول عظم الله أجركم و أجرنا جميعا باستشهاده
فمُصابكم مُصابنا جميعاً، و لا نقول إلا
ما يرضي الله و رسوله. و لا حول و لا قوة إلا
بالله.
و همسة بأذن الكرك فأقول: حُق لكِ يا كرك المجد أن تزهي
بعباءة العز و تتيهي فخراً؛ فهذا معاذ ينضم إلى الأكابر من أبناء الكرك ممن أرتقى
قبله شهداء سجلوا أسماءهم في سجل الخالدين؛ ما نسيهم الأردن الذي عاش في وجدانهم
دائماً.
المجد و الخلود
لشهدائنا الأبرار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق