بين الدين والتدين
مصطلح الدين والتدين أفهمه كما أفهم مصطلح الإسلام
والأسلمة. ولتوضيح الصورة أعود
بالذاكرة إلى عام 1974 وفي محاضرة التاريخ
(متطلب كلية) للدكتور أحمد الشبول حيث كان يحدثنا عن الفتوحات الإسلامية، قال إن
أول ما كان يحرص عليه الفاتحون المسلمون
للمدينة هو أسلمة تلك المدينة. وسأل بعدها من منكم يعرف المقصود بالأسلمة؟ فأجاب الزميل "علي
اسماعيل" مثل بناء المساجد" فقال الدكتور بالضبط. إذاً فالمقصود هو إظهار مظاهر التواجد الإسلامي
السياسي الاجتماعي بالمدينة.
تذكرت هذا المفهوم وأنا أتابع منذ نهايات القرن الماضي ظهور
عبارات على الطرقات الخارجية بين عمان وإربد
على سبيل المثال " اذكروا الله" وعبارات أخرى قصيرة ذات نفس الأسلوب، فنذكر الله
مع الذاكرين. وعندما قُدِّر لي الذهاب لصلالة بسلطنة عُمان وجدت نفس الظاهرة مع
أمكنة أخرى للصلاة مجهزة بالماء؛ ولطول إقامتي هناك تابعت نموها وازديادها كما هو
الحال بالأردن. ولا أظن أن الوضع يختلف في باقي الدول العربية وربما الإسلامية.
لكن عندما دخل
هذا القرن ومع ظهور الحركات الإسلامية عموماً بدأت ألحظ ازدياداً كبيراً للظاهرة،
ولم تعد تقتصر على الطرق الخارجية فقط ولكنها دخلت المرافق جميعاً إلى أن وصلت الإشارات
الضوئية. وبدأت تظهر بشكلٍ منظمٍ جداً
وفيها استيلاء على المرافق العامة كالشوارع
الطويلة، فكتبت أسماء الله الحسنى مثلاً على شارع طويل مزدحم لا يمكن أن
يقوم به أشخاص عاديون بجهد فردي؛ فلا بد من جهات معنية مهنية مصحوبة بمعداتها
لتثبيت مثل هذه الصفائح المعدنية بشكل جيد. وربما احتاجت أيضا للعمل بآخر الليل. وهنا يبرز سؤال إن كان هذا الأمر يتم برعاية
رسمية من البلديات عموماً (فالأمر لا يقتصر على العاصمة فقد رأيتها بإربد أيضا).
ما أعرفه مثلاً أن كل مظاهر الانتخابات تزال بعد الانتخابات فلماذا تم الإبقاء على
مثل هذه العبارات؟ هل هو الخوف من الاقتراب من كل ما يمس الجانب الديني مثلاً؟ أم هل
دفع أصحابها رسوماً مالية لبقائها كباقي الإعلانات ؟ أكثر من شارع طويل تتوزع فيه أسماء الله الحسنى التسع وتسعين اسما؛ إشارات
ضوئية تحمل عبارات استغفروا الله أو اذكروا الله أو صلوا على النبي. لا أمانع بتدريسها ضمن ملازم معينة بالمدارس
فالاستفادة منها هناك أكثر من عرضها بالشوارع.
إذا أخذنا بالقول بأن هذه المظاهر تقع في باب التدين فمن له مصلحة في ذلك ليظهر
المجتمعات الاسلامية وكأنها مجتمات دراويش، وهنا أتحدث عن فرقة من الفرق الاسلامية
فليس كل الفرق الأخرى توافق على مثل هذه الظواهر.
نعم هي طيف واحد فقط ألا وهو الجانب
التصوفي؛ فلم تحمل أي عبارة من العبارات أي دعوة تحث على العمل أو المعاملة إنما
هي الاستغفار والذكر والجانب الروحي فقط؛ لا أدري أيهما أفضل على الإشارة الضوئية تذكير السائق بالاستغفار أم عدم قطع الإشارة
الحمراء مثلا؛ أليس الأفضل مثلاً أن نخبر السائق بغلق هاتفه عند الضوء الأصفر إلي جانب الاستغفار.
إن الخطر في نمو هذه المسألة وإن كان ظاهرها الدروشة هو
أن مثل هذا الطيف عندما يسود ستقوده هذه
السيادة إلى افتراض أنه الوحيد هنا وبالتالي هو الأفضل وبعدها الأقوى وبعدها
محاولة التفرد بالسيطرة على باقي الأطياف الدينية وبالأخير رفضها. فهذا لا تعجبه
صلاة الإمام الفلاني أو فتوى الشيخ العلاني
وتبدأ بعدها استقطاب المريدين لها
ولا أدري ماذا ستكون النتيجة. يكفي أن يكون أحدهم في المسجد ليعلو صوته منبها لهذه
القضية أو تلك أو محتجاً لمجرد أنه يتمتع بالمظهر الديني . في حين يجلس حملة الدكتوراه
في الشريعة فلا يتحدثون في مثل هذه
المواقف حرصاً على الهدوء بالمسجد.
والنقطة الأخرى متعلقة بالجانب المالي . كما أسلفت أن
عملية نشر هذه الظاهرة هي عملية منظمة ولا
يمكن أن تقوم بها أفراد فقط. ولا بد لها أيضاً من دعم مادي فمن ينظم ومن يدفع؟ وهل يجوز مثلاً تلقي
الاموال من جهة معينة بحجة نشر الاسلام وهي في الحقيقة تروج لجماعةٍ أو لمذهبٍ فتح
الله عليه بخير وفير. فهل يمكن القول أن
الدول تغض النظر عن هؤلاء؟ ولماذا؟
وأخيراً هل مجتمعاتنا الإسلامية بحاجة لمن يذكرها بذكر الله وباستغفاره بهذه
الطريقة؟ القضية كما أراها هنا هي إظهار الشيء للغير أكثر من المعنيين
ذاتهم. وهنا السؤال أيضا إذا كانت الأسلمة
(المساجد والمآذن) التي تحدثت عنها بالفقرة الأولى كمدخل للموضوع إشارة لمن
يدخل مدننا بأنه يدخل مجتمعاً إسلامياً فهل هذه الظاهرة التدينية هي إشارة للداخل وليس الخارج بأن هذا المجتمع لهذه الفئة من
المسلمين؟ كذلك فإن المساجد والمآذن ظواهر
معروفة عالمياً ولا تحتاج لترجمة في حين أن العبارات والكتابات كلها بالعربية فهل
هي للعرب فقط أم ستتم ترجمتها لاحقاً حتى يفهمها غير العرب؟
إن الأمر تطور جداً حتى غزا مواقع التواصل الاجتماعي
والاتصال كذلك؛ فأصبح تداول المنشورات الدينية وخاصة الأدعية أو التي تحمل عبارات
الوعظ والإرشاد الروحي يطوف العالم وكلها تحمل ذات الفكر ولا تحمل في ثنياها (
التي جاءتني ) أي دعوة للعمل الفعلي. بات
يشعر مناصروها أن قمة الدعوة للإسلام هي نشر هذه المواد والفيديوهات مع التذكير
بضرورة نشرها لأصدقائنا هو المطلوب.
فهل هذا هو المطلوب للمرحلة القادمة في المجتمعات
العربية؟
الدين كما اراه هو باختصار كما جاء بالحديث "
الدين المعاملة" وما أراه بالطرقات هو التدين. وهناك فرق طبعا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق