ثقافة الحج
بداية نترحم
على أرواح من قضوا نتيجة التدافع بمنى بموسم الحج هذه السنة، ونتقدم من ذويهم بأصدق التعازي بهذا المصاب
الجلل. وفي الحقيقة إن هذا التدافع لم يكن
الأول وأتمنى أن يكون الأخير لأن السنوات القليلة الماضية شهدت حالات قليلة من هذا
النوع. ولا بد من الإشادة هنا بجهود المملكة العربية السعودية من أجل تسهيل مهمة الحجاج في كل مرة رغم وجود
بعض الأخطاء فالكمال لله وحده. فمن يشهد
موسم الحج على الطبيعة كما قُدِّر لي بعام 2001 لا يستغرب مثل هذه الحوادث. لا أحاول تبرئة أحد من مسؤولياته طبعاً، ولكني
أحاول تفسير (لا تبرير) ما حصل.
ما يحدث دائماً
بمثل هذه الأزمات يكشف أننا بحاجة لثقافة الحج ولا أقصد معرفة أركانه من كُتَيب
صغير. وهذه الثقافة التي أعنيها تتمثل في
ضرورة إخضاع الحجاج لدورات فعليه
ليوم أو يومين في كيفية الحج بمراكز مختصة يمارس فيها الحجاج شعائر الحج تمثيلياً
وليس مجرد نشرات أو أشرطة أو مرشدٍ لا يعرف شيئاً من شعائر الحج؛ إنما جاء فقط
بفيزاء حج ليحج وربما كان ذلك مقابل مبلغ مالي لصاحب الشركة تماما كمسمى "
مساعد سائق".
ومن الضروري
جداً في هذه الدورات عدم نبش
الاختلافات المذهبية بخصوص شعائر
الحج والالتزام بما هو بالسعودية حتى لو خالفه أصحاب البلد؛ لإن في اتباع التوجيه
السعودي جزءاً من التنظيم للحج؛ وأهم هذه
الاختلافات يتمثل بموعد الرمي للجمار، إذ ما زال بين المسلمين من يُصر على الرمي بعد
الزوال رغم الفتاوى بأن الرمي طيلة اليوم
جائز. ولا ضير بالالتزام بمذهب الشخص إذا
بقي في خيمته إلى ما بعد الزوال ليرمي،
ولكن ما يحدث أنك تجد أتباع هذا الاتجاه وقد تجمعوا قريباً من مدخل مسار الرمي
منتظرين الزوال، وعند الزوال يندفعوا كسيل العرم موجات ليرموا؛ وهذه يشهدها كل من
يذهب للحج. ولك أن تتصور أن تكون سائراً بيمن الله ورعايته وفجأة تجد نفسك عائماً
بين الأمواج البشرية التي لا تفهم إلا لغتها.
لا أدري لماذا
لا يتبع هؤلاء نهج المصطفى صلى الله عليه
وسلم عندما حج وكان جوابه (إفعل ولاحرج) عند كل سؤال وجه له صلوات الله عليه
وسلم. ولا يمكن أن يقال هذه فقط خاصة
بموقف معين. إن ذات الموقف يفرض نفسه في كل موسم فلماذا التضييق على الناس بموقف
معين وبوقت معين.
ومن ثقافة
الحج أيضاً احترام قوانين وإرشادات البلد المضيف المملكة العربية السعودية؛ ولا يجوز
مخالفتها من باب أننا كلنا مسلمين وهذه بلاد المسلمين ولنا أن نحج بالطريقة التي
نريد. ولا يختلف معهم أحد طبعاً بقضية
أننا جميعاً مسلمون، ولكن في اتباع القوانين والإرشادات السعودية نضمن حياة الآخرين
من الدول الأخرى وهم أيضاً مسلمون جاؤوا لبلاد الإسلام. من حُسْنِ حج المرء أن لا
يؤذي غيره لفظاً ومسلكاً؛ فحياة الجميع هي
مسؤولية إدارة الحج.
إن أدارة موسم
الحج هي مسؤولية المملكة العربية السعودية وحدها والتي لا تنتظر الشكر إلا من صاحب
الحج رب العباد؛ و لا يجب التشويش عليها قبل الحج وخلاله وبعده من خلال الفضائيات
الكثيرة أو المواقع العديدة التي تعيش على السلبيات. نعم لقد وصلت خيرات ما يسمى بالربيع العربي إلى
موسم الحج، فأصبحنا نسمع التنظير على القنوات من كل ما هب ودب. وللأسف كان حادث التدافع هذا فرصة للنيل من
المملكة وموسم الحج نفسه ونفذ بعضهم حتى إلى الدين نفسه خاصة أن هذا الابتلاء
الرباني كان عظيماً هذا العام لأنه سُبق بحادثة الرافعة إياها؛ فكثرت التعليقات
والسخريات والصور من كل شيء؛ فلم يوفر أصحابها أي شيء للتسلية بمآسي البشر.
لا أدافع عن
أحد ولا ألتمس العذر فنحن بانتظار نتائج التحقيق طبعاً بالحادثين؛ ولكني فقط أطالب
بتفهم الموقف السعودي؛ فمن ذهب للحج يرى حجم الجهود المبذولة لتسهيل مهمة زوار بيت
الله الحرام؛ لكن هناك مشكلة رغم كل هذا
وهي ثقافة القادمين للحج التي أشرت اليها بكيفية التعامل مع هذه الاجراءات ومدى
جديتهم في احترامها.
ومن العبث
الإعلامي المقابل في هذا المجال أن هناك من يحاول ومن فرط حبه للسعودية أن لا يكون
متوازناً فأصبح يطلق الدعايات بأن هناك من دبر هذا (نظرية المؤامرة)؛ في حيين أن هناك
من لا يرى السعودية قادرة على إدارة موسم الحج وضرورة تشكيل لجنة لهذا الأمر وهذا
ما أضحكني كثيراً. فإذا كانت دولة بحجم
السعودية إدارة وخبرة ومالاً يحدث فيها ما يحدث فكيف سيكون الحال إن استلمت لجنة
من الدول المشار إليها بالإشاعات إدارة أمور الحج وهي البعيدة عنه؟ هل ستديره بالريموت كنترول مثلاً؟
لقد طرح بعض
الأصدقاء النموذج الماليزي أو الإندونيسي من الحجاج وكيفية إدارتهم لحملات حجاجهم
كل عام وأعجبوا بتجربتهم وأنا معهم؛ هم يأتوا لهدف معين، منظمين، وتحت قيادة واحدة؛
ليس كحجاجنا الذي تنقطع علاقتهم مع منظمي حملاتهم بمجرد الوصول، وتعود عند
العودة. أذكر أنني ومعي بعض الإخوة سألنا
عن منظم حملتنا ولمناه لأنه لا يتواجد معنا؛ فقال وماذا تريدون مني ( آدي السكن
وآدي الحرم) فماذا تريدون مني بعد هذا؟
وهنا أسأل عن سبب التزام الماليزيين: هل هو عدم معرفتهم باللغة وخوفاً من
الضياع؟ أم هي طبائع الشعوب! وكفى.
إلى جانب
ثقافة الحج كذلك هناك أمر إداري مهم برأيي ألا وهو كوتات الحج. لماذا أراها في تزايد؟ لماذا لا يتم تقنينها وخاصة للدول التي تورد
التقارير مخالفاتهم الكثيرة للحج كنوع من
العقوبة لهم؛ لماذا تمر كل هذه التجاوزات بدون حساب. نعم سيقول هذا حرمان للناس من الحج، ويحتج آخرون بأن لا تزر وازرة
وزر أخرى؛ احتجاجات كثيرة ربما نسمعها، ولكن مواسم الحج والفيزا أصبح تجارة رائجة
جداً هذه الأيام ربما من باب ليشهدوا
منافع لهم.
وقبل أن أختم
أود الإشارة إلى خطبة عرفات لسماحة مفتي المملكة العربية السعودية أطال الله في
عمره في طاعة الله وشفاه يا رب. لكن خطر
ببالي سؤال يراودني من زمان وأجدها فرصة
لطرحه هنا وهو دورية خطبة عرفات بين علماء مسلمين من كافة الدول الإسلامية؛ لماذا
لا نرى علماء ممن يحتلون منصب المفتي في بلدانهم وهم علماء أجلاء؟ و لا نزكي على
الله أحداً، لكني أريد لموسم الحج أن يكون موسماً إسلامياً قولاُ وفعلاً,
وأتمنى أن لا يُغضب اقتراحي أحداً.
رحم الله
الشهداء وعجل في شفاء المصابين، وبارك في جهود المملكة العربية السعودية الطيبة في
خدمة الحج والحجاج وجعل هذا في ميزان حسناتهم.