طارق عزيز من آخر الرجال المحترمين
ها هو فارس من فرسان السياسة العراقية العربية الدولية يترجل عن صهوة مجد
تليد تركه خلفه للتاريخ ليذكره بما يليق به، ويحط رحاله في الأردن موئل الأحرار
أحياءً وأمواتاً بعد أن تضيق بهم جنبات بلادهم.
رحم الله الشاعر عمرو بن الأهتم التميمي إذ قال:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
**** ولكن أحلام الرجال تضيق.
نعم
لم تضق أرض العراق أبداً بأهلها إلا عندما ضاقت أحلام الرجال فيها. لقد كانت أحلام الرجال في العراق بزمن الإباء
العربي تتسع لكل العرب ضيوفاً وطلاب علم؛ ولن ينسى العرب للعراق سعة أحلام رجاله؛
ولن ننسى لهم قِدْرَهم (الجِدِر) الذي جادوا به وهم أحوج الناس إليه عندما فزع
العرب للأردن. نعم، ومن غير عمّان يمكن أن
تكون محط رحال هذا الفارس الشهم طارق حنا عزيز وهي التي احتضنت من سبقه من أبناء
الرافدين فأقاموا فيها معززين مكرمين.
بترجل
طارق حنا عزيز فإننا نودع رجلاً من آخر الرجال المحترمين الذين ما خذلوا بلدهم ولا
قائدهم يوماً وقد كانت الدنيا تفتح ذراعيها له بإشارة منه؛ حيث كان بإمكانه اختيار
عدم الرجوع إلى العراق وسيلقى كل ترحاب بتلك الدول ولكن طبعا لن يذكره أحد بعد
ذلك. اختار رحمه الله حضن العراق وهو يعلم ما ينتظره هناك.
إننا
عندما ننعى طارق عزيز فإننا ننعى به رجلاً لم يتنكر لتاريخه ولم يدر ظهر لقائده؛
رجلاً كان عندما تختفي الرجال. لم يحاول
تبرير أي شيء وتحمل مسؤولياته كاملة ولم يتنصل منها؛ وهو قطعاً قد تعرض لضغوطات
وإغراءات وهو في سجنه ولكنه بقي صلباً ورفض أن يغادر الدنيا إلا كما عرفناه. كيف
بنا نسيان مقارعته لجلاده ولا أقول القاضي وهو يطلب منه عدم الإشادة بصدام حسين.
إننا
عندما ننعى طارق عزيز فإننا ننعى زمن عز وكرامة ما زال جرحها ينزف في كل ببيت عربي
في هذا الجزء من العالم. وهنا استدرك بأن
النظام العراقي بتلك الفترة عليه من المآخذ الكثير ولكني عندما أنظر إلى ما آل
اليه الوضع العربي أكتشف أنه كان واسطة العقد العربي بلا منازع، وبانقطاعها انفرط
العقد وتناثرت حباته فوق صفيح ساخن لا نستطيع إعادة الوصل بينها.
قبل
لحظات كنت في حديث مع زميل يمني عن الوضع اليمني ولكن بصيغة العربي فأنا لا أفصل
بين الحالات العربية فكلها نسخ كربونية مكررة.
وجدتني استذكر معه مقولة بيكر وزير خارجية أمريكيا عندما قال للمرحوم طارق
عزيز سنعيد العراق مائة عام إلى الوراء. قلت لصديقي إنهم بإعادتهم للعراق مائة عام
فقد أعادوا العرب كلهم إلى الوراء أكثر من مائة عام. أي مليارات يمكن أن تصلح حال
الأمة العربية لتعود كما كانت قبل 1990.
لا نريدها مُواكِبة للعالم بالقرن الحادي والعشرين؛ نريدها فقط أن تعود كما
كانت بنهاية القرن العشرين عندما اختطفوها منا؛ فقد بدأ منحنى السقوط العربي منذ
ذلك الزمن البعيد. إننا عندما ننعى طارق عزيز فإننا ننعى معه زمان الوصل ببغداد حيث
كانت فزعة لكل العرب.
إننا
عندما ننعى طارق عزيز فإننا ننعى معه آخر أيام الوحدة العربية التي اختفت فيها حتى
الشعارات الوحدوية وبرزت فينا نزعة التشرذم والتقوقع كل أمة حول نفسها. وأصبح جل
همها أن تحافظ على كيانها واقفاً حتى لا يسقط؛ فسقطت الأنظمة ولا أتحدث عن الحاكم
نظاماً إثر نظام ولا يبدو لها فرج في القريب العاجل.
وحده
أردن العرب كان إسماً على مسمى. فبدأ
عروبي النشأة، إسلامي الهوى والثقافة واستمر كذلك. لهذا ليس بمستغرب على هذا الحضن
العربي الدافئ أن يستضيف أشبال العراق وحرائره عندما ضاقت بهم السبل. وليس غريباً
أن تكون وصية الراحل الكبير أن يوسد الثرى الأردني بين أسرته التي سبقته وأهله
وعزوته الأردنيين بالأردن. ليس المهم أن
يدفن في الفحيص أو الكرك أو غيرها فكلها الأردن؛ كلها تسقى من مزن واحدة وتتنفس
هوى عربياً عرفه كل من مر بهذا الحمى الطيب.
يوم
أمس -والأحداث لا تأتي عبثاً أو مصادفة- سلَّم جلالة الملك الراية الهاشمية
لقواتنا المسلحة؛ درع الوطن وحامية حماه. ومن تابع المنشور حول دلالة الراية
وألوانها وما ترمز إليه يدرك البعد العربي والإسلامي العام لهذه المملكة التي هي بحجم
بعض الورد. ما زالت الراية تحمل ذات
الأهداف التي توارثها الأباء عن الأجداد وسيورثوها للأبناء. نعم جاءت هذه المناسبة
لتؤكد أننا ما زلنا والحمد لله نملك ما يمكن أن نقري فيه ضيوفنا ونغيث الملهوف و(ننتخي)
لمن يطلب فزعتنا. نعم والحمد لله ما زلنا
أردنيين المظهر والجوهر، ولا نتوقف عند مفاهيم الربح والخسارة التي تحكم السياسات
هذه الأيام.
وحتى
نتمكن في الأردن من فعل كل هذا يجب علينا نحن الأردنيين أن نعين بلدنا على ذلك
الأمر سواء كان ذلك بجنازة المرحوم أو أي أمور أخرى لها علاقة بالدول العربية
الأخرى؛ فليست كل الدول العربية كالأردن فهناك من الأشقاء من يتعكر خاطره سريعاً
وإذا تعكر الخاطر نسي كل أيادي الأردن البيضاء سابقاً؛ ولا يحتاج الأمر إلى مزيد
من الشرح.
مرحبا
بطارق عزيز عزيزاً حياً وميتاً في الأردن ولترقد روحه بسلام وطمأنينة في هذا البلد
الآمن دائماً بعون الله.
عزاؤنا
لعائلة المرحوم ولكل أحرار الأمة العربية بوفاة فارس من فرسان الزمن الجميل ورجلٍ
من آخر الرجال المحترمين؛ فما زال الخير موجوداً بمن هم على الدرب سائرون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق