في
حضرة رمضان تراثياً
لرمضان
رونقٌ خاص عندما يكون الحديث عنه عن أيام زمان أي كجانب تراثي. وتكمن روعته إضافة
لبُعْدِه التعبدي كأحد أركان الإسلام فإنه يجمعنا بالأحباب ممن اختارهم الله ليكونوا
إلى جواره فنترحم عليهم وعلى أموات مَن مر بهذه الكلمات ونطلب لهم المغفرة فنكون
حققنا سُنّة نبوية "ولد صالح يدعو له"؛ ثم نتذكر أيام زمان بقسوة عيشها
الذي نَحِن إليه أحيانا لما للحداثة من رعب أشد من شظف العيش لتلك الفترة. وما سأتحدث عنه رغم ظاهره الشخصي إلا أن له بعد
اجتماعي كذلك فهو يصف مرحلة معينة من تاريخ أهلنا وجدودنا.
لا
أذكر بالضبط السنة التي بدأت فيها الصيام. لكني استرجع تلك اللحظات التي بدأت أسمع
فيها الوالدة وجدتي لأبي رحمهن الله تتحدثان عن شيء اسمه السحور برمضان (كانت
تُلفظ السَحور)، فأخذني حب الاستطلاع لأعرف ما هو هذا السَحور. ولأن الصيام شرط لاستحقاق
السحور اعلنت عن رغبتي بالصيام فضحكت الوالدة رحمها الله ولا أدري أكان فرحاً
بصيامي أو رغبتي فيه أو لأنها كانت أعرف في من نفسي فعرفت أنها رغبتي بالتسحر معهن
(هي وجدتي). المهم أفقت معهن على السحور لأكتشف
أن هذا السحور السري جداً ما كان إلا صحن سلطة ورغيف خبز طابون. ولا أدري أكان هناك صحن زيت وزعتر احتفالاً
بانضمامي لفئة الصائمين (المتسحرين) أم لا.
أثناء
السحور أو قبله سمعت صوتاً هاتفاً بالسحر على طبل، وكان الصوت خلف البيت؛ فتملكني
شعور بالخوف الشديد لأن خلف البيت تقع المقبرة، فتهيأ لي أن أحدهم قام من قبره. وإذا عرفنا أن هذا كما أذكر كان بفصل الشتاء
وفي ظلمة الليل لعدم وجود الكهرباء فيمكن لمن تبسم من خوفي أن يتصور حجم الخوف.
ضحكت جدتي وقالت: يا جدة، هذا المطبل فلم تكن كلمة مسحر أو مسحراتي معروفة. وبالمناسبة شكلت هذه لدي عقدة من هذا الصوت للآن. فقد قدر لي أن أسمع بمسحراتي يطبل على سطل
أعرفه بالحقيقة وبوجود الكهرباء فوقف يطبل تحت البيت فنظرت من النافذة مع من حضر
ولكني لم أره رغم أن من معي رأوه طبعا.. هم لم يعرفوا هذا للان أنني لم أرى أبا
محمد.
نعود
لموضوع صيام عندي وبعد هذا السحور المميز (سلطة) وتطبيلا كنت في قمة الجوع عند
الظهر، ولكن أذكر أنني استغليت فرصة مروري قرب الخابية (الزير) فشربتُ بسرعة حتى
لا تراني الوالدة فإذا بها رحمها الله تضحك خلفي.
وبسرعة زفت الخبر لجدتي فضحكت هي الاخرى وقالت: أي مليح يا جدة غد صوم
للظهريات بصير يوم. أعجبتُ بالفكرة ولا أدري إن صمت للظهريات ثاني يوم أم لا. رحم الله جدتي فقد كانت كوالدتي حناناً علي.
أما
الفطور فكان لا يختلف رفاهية عن السحور
ربما كان هناك بعض المرق بندورة أو بطاطا.
لكن ما يهم في الفطور أمران الاول تذكرته وأنا اكتب هذه الكلمات. لقد كنت ألاحظ أن الوالدة رحمها الله كانت تفطر
على لقيمات وتنشغل بأي أمر لتأكل ما يتبقى من الأكل. وعادة لا يكون المتبقي كثيراً.
أما
الأمر الثاني فهو طقوس ما قبل الافطار وهو انتظار الأذان. فعندما يقرب قرص الشمس
المغيب ننتشر (الصِبيّة) خارج البيت لتسمع الأذان ونسمع طلقة الجفت. لقد كان يصاحب المؤذن شخص يحمل جفتا فعندما
يحين الموعد يرتفع صوت المؤذن بالأذان وينطلق معه صوت الجفت الذي هو بمثابة مدفع الإفطار عندنا، وكنا نفرح
عندما نرى دخان الجفت قبل أن نسمع الصوت.
فنصيح جميعاً كل من فوق ظهر بيتهم بصوت عال (افطروا يا صايمين) وطبعا بما أننا
منتشرون بالخارج فهذا يعني أننا لم نكن من فئة الصائمين.
وحتى لا يكون الأمر قاتما
جدا لا بد من التعريج على بعض الأيام التي يدخل فيها الزفر (اللحم يعني) موائد الإفطار عندما يحضر الوالد أطال الله في
عمره في إجازة والتي غالبا ما تكون قصيرة كحال باقي رجال الجيش والشرطة أيام زمان،
فقط كانت الاجازات شحيحة وإن حدثت تكون قصيرة
لا تكفي مشوار الطريق إن كانت خدمة الشرطي بمكان بعيد.
ربما من المفيد الإشارة هنا
أن الحال من بعضه بمعظم البيوت في قُرانا الوادعة وريفنا الطيب لأنها لا ارتباط
لها بالعالم الخارجي إلا من خلال الراديو الذي يتواجد عند عدد قليل و لا مجال
للمقارنة مع الاخرين فانتفى عامل التقليد الذي غزا بيوتنا مع التلفزيون واقتحم
عقولنا وخصوصياتنا بالفضائيات التي هدمت كل القيم طلبا للربح كما شردت الشعوب
لاحقا لركوبها السياسية.
المهم
لا نريد ان نخرج من أجواء رمضان، كل عام وأنتم جميعا بخير؛ ونحمده تعالى ما أنعم
علينا " وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ
لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ". صدق الله العظيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق